لماذا يحلو لنا أن ننقل مقولات آينشتاين (حتى التي لم يقلها) ؟

لماذا يحلو لنا أن ننقل مقولات آينشتاين (حتى التي لم يقلها) ؟

في أواخر عام 2017، تم بيع قطعة ورق تحمل 13 كلمة كتبها آينشتاين بخط يده في أحد مزادات مدينة القدس. القدس هي موطن لأرشيف آينشتاين، والذي أوصى به قبل وفاته عام 1955 إلى الجامعة العبرية، المعهد الذي ساهم في تأسيسه عام 1920. يحتوي أرشيف ألبرت آينشتاين اليوم على حوالي 30 ألف مستند، أضعاف حجم أرشيف جاليلو جاليلي وإسحاق نيوتن، وينافس أرشيف نابليون بونابارت.  إلا أن الهدف من هذه الورقة بالذات لا علاقة له أبدًا بالأرشيفات، على الرغم من وجود نسخة منها في المجموعة. لقد كانت مثيرة للاهتمام فعلًا.

تم نقش وتوقيع هذه الورقة في اليابان على أوراق ترجع إلى الفندق الإمبراطوري Imperial Hotel في طوكيو، ويعود تاريخها إلى شهر نوفمبر من عام 1922، أي الشهر الذي حصل فيه آينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء. كان آينشتاين يقيم في هذا الفندق أثناء جولة محاضراته واسعة الشعبية في اليابان،  التي جذب فيها اهتمامًا أكثر من العائلة الإمبراطورية اليابانية نفسها. حسب ما يبدو، أصيب آينشتاين بالإحراج من هذه الشعبية المحمومة، فقرر تسجيل بعض أفكاره ومشاعره حول الحياة مستعينًا بالكتابة. أعطى آينشتاين هذه الجملة بالذات (وجملة أخرى أقصر منها) إلى ساعي بريد ياباني، إما بسبب أن ساعي البريد رفض قبول البخشيش، كما هي العادة في اليابان، أو بسبب أن آينشتاين لم يكن يملك فكة النقود. يبدو أن آينشتاين قال لساعي البريد غير المعروف اسمه: “إن كنت محظوظًا، فقد تصبح هذه الملاحظات ذات قيمة عالية جدًا أكثر من قيمة بخشيش بسيط”، وذلك وفقًا لما قاله بائع هذا المستند، الذي تقول BBC  أنه ابن أخ ساعي البريد.

قدّر مزاد القدس بأن هذه الورقة ستباع مقابل 5000 دولار إلى 8000 دولار. بدأ المزاد عند سعر 2000 دولار. ولمدة 20 دقيقة، دفعت موجات العروض السعر إلى أعلى بسرعة، إلى أن تنافس اثنان من المزايدين على الجائزة عن طريق الهاتف. في نهاية المزاد، وصل السعر إلى رقم لا يكاد أن يصدّق: 1.56 مليون دولار.

ترجمة جملة آينشتاين العربية هي: “الحياة الهادئة والمتواضعة تجلب سعادة أكبر من النجاح المصاحب للقلق المتواصل”.

سخافة هذا المزاد لن يتم تضييعها على آينشتاين لو أنه لا زال بيننا. أثناء النصف الثاني من حياته، وبعد االإثبات الفلكي الذي قادته بريطانيا لنظريته عن النسبية العامة عام 1919، كان آينشتاين مرتبكًا بسبب شهرته وغير مهتم إطلاقًا في جمع المال من أجل مصحلته الشخصية. لقد كان أكثر سعادة حينما كان متروكًا لوحده مع حساباته الرياضية أو مع مجموعته المختارة من زملائه الفيزيائيين والرياضيين – في زيورخ وبرلين وأوكسفرد وباسادينا وبرنستون. في رحلته البحرية الطويلة من أوروبا إلى اليابان ثم العودة منها، كان يحلو له أن ينسحب إلى مقصورته الخاصة ليخربش بالمعادلات الرياضية.

 وكما كتب آينشتاين عن شهرته في مقدمة كانت لكتاب يحكي سيرته للفيزيائي فيلب فرانك Philip Frank:

“لم أفهم أبدًا لماذا تُقابَل نظرية النسبية بمفاهيمها ومعضلاتها البعيدة حتى الآن عن الحياة العملية بصدًى ينبض بالحياة وبالشغف بين أوساط عريضة من الجماهير .. لم أسمع قط أي إجابة مقنعة عن هذا السؤال.”

 وفي مقابلة مع مجلة Life قبيل وفاته عام 1955، قال آينشتاين متأملًا في معنى الحياة:

“حاول ألا تكون شخصًا ناجحًا، بل أن تكون شخصًا شخصًا ذا قيمة.  إن الشخص الذي يأخذ من الحياة أكثر مما يعطيها هو من يُعتبر ناجحًا في أيامنا هذه. إلا أن الرجل ذا القيمة يعطي أكثر مما يأخذ.”

شهد خبر وفاة آينشتاين تغطية إعلامية عالمية. نشرت صحيفة نيويورك تايمز  التعازي من رئيس الولايات المتحدة ورئيس ألمانيا الغربية، ووزراء الحكومات الإسرائيلية والفرنسية والهندية؛ وتبعهم في ذلك المثقفون البارزون الذين عرفوا آينشتاين شخصيًا. يقول جي روبرت أوبهيمر J Robert Oppenheimer، الفيزيائي الأمريكي الذي قاد بناء القنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية: “هذا يوم عزاء لكل العلماء ولأغلب البشرية. لقد كان آينشتاين أحد أعظم الرجال على مر العصور”. أما الفيزيائي الدانمركي نيلز بور Niels Bohr، الذي اختلف مع آينشتاين في النظرية الكمية Quantum Theory، فقد كتب:

“الهدايا التي قدمها آينشتاين لا تقتصر ابدًا على المجال العلمي. إن اعترافه بالافتراضات التي لم يسبقها مثيل حتى في افتراضاتنا الأساسية والأكثر اعتياديةً تعني للناس تحفيزًا جديدًا لتعقّب ومكافحة الانحيازات والرضا عن النفس المتجذرين عميقًا في قلب كل ثقافة قومية.”

ووفقًا للفيلسوف البريطاني برتراند راسل Bertrand Russell:

“لم يكن آينشتاين عالمًا عظيمًا فحسب، بل كان رجلًا عظيمًا كذلك. لقد وقف إلى جانب السلام في عالم يتجه نحو الحرب. لقد بقي عاقلًا في عالم مجنون، وحرًّا في عالم المتعصبين.”

اليوم، آينشتاين هو أكثر العلماء الذين تُقتبس أقوالهم في التاريخ، أكثر بمراحل من أرسطو  وجاليلو ونيوتن وتشارلز دارون وستيفن هوكنغ، وذلك بالنظر إلى عدد اقتباساته في سجل أقواله على Wikiquote – وأكثر بكثير من معاصريه في القرن العشرين من غير العلماء: ونستون تشرشل وجورج أورويل وجورج برنارد شو. دعوني هنا أقتبس من كتاب اقتباسات آينشتاين The Ultimate Quotable Einstein (2010)، الصادر عن دار جامعة برنستون للنشر Princeton University Press، الدار التي نشرت مجموعة أوراق آينشتاين The Collected Papers of Einstein   (وهي مختارات في طبعتها الرابعة والنهائية الآن): “يبدو أنه ليس هنالك حد لعدد الاقتباسات الثمينة التي يمكن العثور عليها في أرشيفات آينشتاين الضخمة”، كما تقول محررة الكتاب آلس كالابرس Alice Calaprice في مقدمتها.

ليس من المفاجئ أن يتم الاقتباس من آينشتاين كمرجعية في العلم، مثلًا: “أكثر ما لا يمكن فهمه عن الكون هو أنه قابل للفهم”. إلا أنه يتم اقتباس أقواله في العديد من المواضيع الأخرى غير العلمية، بما فيها التعليم والذكاء والسياسة (عُرض عليه رئاسة إسرائيل عام 1952) والدين والزواج والمال وصناعة الموسيقى. ففي تعليم نجد: “التعليم هو ما يبقى بعد أن تنسى كل ما تعلمته في المدرسة”. وفي الذكاء: “الفرق بين العبقرية والذكاء هو أنه العبقرية محدودة”. وفي السياسة: “الجنون هو أن تفعل الشيء ذاته مرارًا وتكرارًا مع توقع نتائج مختلفة”. وفي الدين: “الإله لا يلعب بالنرد”. وفي الزواج: “يتزوج الرجال من النساء على أمل أنهنّ لن يتغيرن أبدًا، ويتزوج النساء من الرجال على أمل أنهم سيتغيرون. ولكن كلاهما يصابان بخيبة الأمل دائمًا”. وفي المال: “ليس كل ما يُعدّ يمكن الاعتداد به، وليس كل ما يُعتدّ به يمكن عدّه”. وفي الموسيقى: “الموت هو ألا يستطيع المرء الاستماع إلى موزارت”. وفي الحياة بشكل عام: “يجب أن يتم تبسيط الأشياء بقدر المستطاع، ولكن ليس أبسط من ذلك”.

عدد من هذه الاقتباسات ملفق، وتم اختراعها للاستفادة من سمعته كعبقري وكأيقونة مهمة.

آخر هذه الاقتباسات ملأ صفحة بأكملها مؤخرًا في أحد الإعلانات الداخلية لمجلة نيتشر Nature، عندما أرادوا ترويج الأخبار والتغطيات العلمية للمجلة على أنها ليست لا متخصصة ولا مثيرة للدهشة. كل الاقتباسات قد ظهرت مرة بعد مرة في الصحف العالمية الرئيسية، ويتم تداولها بشكل مكثف على شبكة الإنترنت.

ولكننا هنا نقوم بوضع افتراض، هل قال آينشتاين أو كتب تلك الأقوال المذكورة أعلاه فعلًا؟ بالاستناد على التحقيق الوارد في كتاب اقتباسات آينشتاين، وعلى صفحة Wikiquote وموقع www.QuoteInvestigator.com، بالإضافة إلى بحثي الخاص كمترجم لسيرة آينشتاين، هنالك مجال واسع جدًا للشك. في الحقيقة، لم تتم نسبة أي واحد من تلك الأقوال إلى آينشتاين بشكل قطعي، باستثناء “الإله لا يلعب بالنرد!” بل حتى هذا الاقتباس هو صياغة بليغة لتعليق آينشتاين الدقيق على نظرية الكم في رسالة بعثها إلى الفيزيائي ماكس بورن Max Born عام 1926، حيث كتب (بالألمانية): “هنالك الكثير مما تقوله النظرية، ولكنها لا تقرّبنا أبدًا إلى كشف أسرار “النظرية القديمة”. أنا، بكل المقاييس، مقتنع بأن الإله لا يلعب بالنرد”.

مقولة أخرى: “إذا لم تتناسب الحقائق مع النظرية، غيّر الحقائق”. تمت نسبة هذه المقولة لآينشتاين في كثير من المواضع، بما فيها اقتباس إيفانكا ترمب لها، إذ غرّدت بها وأثارت ضجة على شبكة الإنترنت عام 2017 في تعليقها على “الأخبار المزيفة” التي أثارها والدها الرئيس دونلد ترمب وسبب بها جدلًا. لربما يكون آينشتاين متعاطفًا مع الفكرة الرئيسية لهذه المقولة. ففي حوار مشهور عام 1919 مع طالب وجّه إليه سؤالًا بعد إثبات النسبية العامة: “ماذا لو أن الحقائق الفلكية تعارض مع النظرية؟” أجاب آينشتاين: “كنت لأشعر بالأسى تجاه الإله، لأن النظرية صحيحة”. ولكن ليس هنالك أي سجل يثبت أن آينشتاين قد ذكر هذه المقولة القاطعة في أي من خطاباته أو كتاباته. هنالك بعض التعليقات المتشابهة مع هذه المقولة عن الحقائق والنظريات والتي تعود إلى القرن التاسع عشر؛ ولم تتم نسبة هذه المقولة إلى آينشتاين إلا في عام 1991، في كتاب فن أداء النظم الحاسوبية The Art of Computer Systems Performance لكاتبه راج جين Raj Jain – من دون ذكر أي مصدر لها.

الآن، تأمل هذه المقولة عن الدين والمنسوبة بشكل بارز إلى آينشتاين في القسم الختامي من معرض المتحف البريطاني: “أجمل وأعمق تجربة هي الشعور بما هو غامض. إنه البذرة لكل علم حقيقي”. هذه العبارة غير الموجودة في كتاب اقتباسات آينشتاين يبدو أنه تم اشتقاقها بعد عقود من وفاة آينشتاين من هذا التعليق، المكتوب بخط يده، والتي ذكرها بنفسه عام 1932 في تسجيل صادر عن المجلس الألماني لحقوق الإنسان. بعد ترجمة عبارة آينشتاين الألمانية، تقول العبارة: “أجمل وأعمق التجارب هو الإحساس بالغموض. إنه أساس الدين وأساس كل التطلعات العميقة في الفن والعلم.” لاحظ أهم تغيير وقع: “غموض” المذكورة عام 1932 تحولت إلى “ما هو غامض” في 2018.

بعبارة أخرى، تتفاوت اقتباسات آينشتاين كثيرًا في موثوقيتها. كثير منها يمكن تتبعه إلى كتاباته؛ وبعضها يستند على الأقوال التي جمعها أولئك الذين يعرفونه جيدًا؛ وبعضها تحول وتغير مع الزمن؛ وبعضها تحاكي تفكيره، أو أنها تبدو متسقة مع تصرفاته الشخصية ولكنها ليست له في الواقع. كما يوجد ما هو ملفق منها، تم اختراعها للاستفادة من سمعته كعبقري وكأيقونة مهمة – إحدى العبارات سيئة السمعة لآينشتاين هي عبارة يمجد فيها التنجيم باعتباره “علمًا”. وكما يذكر كالابرس: “بعضها يبدو أصيلًا، وبعضها مشكوك في أمره، والبقية ملفقة بلا شك، تم اختلاقها من قبل أولئك الذين أرادوا استغلال اسم آينشتاين لإضفاء المصداقية على قضاياهم وأفكارهم”.

إذن، لماذا لا زلنا منبهرين بآينشتاين إلى درجة تجعلنا نزخرف، بل ونقوم بتصنيع عبارات كثيرة له؟ إن الإجابة ستكون متنوعة ومعقدة وفريدة من نوعها كما كان الرجل وكما كانت حياته، ولكنها بلا شك متجذرة في العبقرية العلمية لآينشتاين. تأمل في هذه القصة المغرية عن آينشتاين، حينما شوهد في عام 1930 وهو في لحظات تفكيره،  والمحكية عن أحد مساعديه الفيزيائيين: بانش هوفمن Banesh Hoffmann:

“عندما أصبح الأمر جليًّا، كما هي العادة، بأن حتى اللجوء إلى اللغة الألمانية لن يحل المشكلة[1]، توقفنا جميعنا عن النقاش، ووقف آينشتاين بهدوء وقال بإنجليزيته الغريبة: “سأفكر قليلًا”. قال ذلك، وصار يمشي ذهابًا وعودةً بخطى سريعة أو يمشي في مسارات دائرية، ويلفّ شعره الرمادي الطويل حول سبابته .. تمر الدقائق واحدة بعد الأخرى وهو على هذه الحال، وأنا وإنفلد (مساعد آخر له) ننظر إلى بعضنا البعض بصمت بينما كان آينشتاين يتجول في المكان ويلف شعره حول إصبعه. كان على وجهه نظرة حالمة، بعيدة إلا أنها نوعًا ما نظرة إلى الداخل. لم يكن هنالك أي مظهر للتركيز الشديد على الإطلاق. تمر دقائق أخرى، ثم فجأةً يُرى آينشتاين مرتاحًا، مع ابتسامة تضيء وجهه. لم يعد الآن يمشي أو يلف شعره. كان يبدو أنه قد عاد إلى محيطه وقد لاحظ وجودنا مرة أخرى، ثم يقول لنا حل المشكلة، وكان الحل يعمل بشكل صحيح في كل المرات تقريبًا.”

من السهل أن نفهم الجاذبية العميقة لآينشتاين أمام العلماء. ففي عددها الخاص عن آينشتاين بمناسبة مرور 100 عام على نظرية النسبية الخاصة، قدّرت مجلة Scientific American بأن ثلثيّ الرسائل الغريبة التي يتلقاها العلماء أو المجلات العلمية تتعلق بنظريات آينشتاين. إما أن يكون كاتب الرسالة يدعي بأنه وجد نظرية موحّدة للجاذبية والكهرومغناطيسية، الأمر الذي فشل فيه آينشتاين، أو أن يدعي بأنه قد أثبت خطأ أفكار آينشتاين، خصوصًا نظرية النسبية. (الثلث المتبقي من الرسائل الغريبة يهتم بآلات الحركة المستمرة والمصادر غير المنتهية للطاقة).

ولكن، يجب أن يكون لجاذبية آينشتاين (التي تتجاوز حدود العلم) أسباب أ كثر من قوة فكره العظيمة. في عام 2005، قام آرثر كلارك Arthur Clarke – الذي ذهبت كتاباته الخاصة وشخصيته إلى جمهور أكثر من القرّاء وروّاد السينما من محبي الخيال العلمي – بإيعاز سبب جاذبية آينشتاين العالمية إلى “التركيبة الفريدة من العبقرية والإنسانية والسلمية وغرابة الأطوار”. فبينما أن اسم نيوتن، على سبيل المثال، هو اسم عائلة، كم من المعلنين سيفكرون في استخدام صورته – كما يفعلون دائمًا مع صورة آينشتاين – بغرض الترويج لمنتج ما أمام الجماهير، باستثناء التفاح؟ ليس من المحتمل أن يذكر أي سياسي اسم نيوتن في خطابه، ونادرًا ما يتم الاقتباس من نيوتن خارج السياق العلمي. بالطبع، لا تزال سيرة نيوتن الذاتية تُكتب حتى الآن، ولكن نيوتن لا يظهر في عناوين الصحف والكارتون وفي المحادثات العادية. هنالك القليل جدًا من الحكايات المشهورة عن نيوتن، ولكن لا يوجد هنالك نكت لنيوتن. لا يستطيع المرء أن يتخيل وجود كتاب بعنوان “اقتباسات نيوتن”.

يُحتفى بنيوتن لإنجازاته العلمية، التي مجّده بسببها كل الفيزيائيين اللاحقين، خصوصًا آينشتاين. ولكن بعد مغادرة نيوتن لكامبردج إلى لندن في عام 1696، لم يترك خلفه أي صديق في المكان الذي قضى فيه 35 سنة من حياته وقام فيه بأعمال ثورية، ليس هنالك أي رسالة باقية كتبها نيوتن إلى أي من معارفه في كامبردج بين العام 1696 حتى وفاته عام 1727. كتب ويليام وستون William Whiston – خليفته في منصب الأستاذ اللوكاسي للرياضيات[2] – عن نيوتن في مذكراته (بعد وقت طويل من وفاة عرّابه): “كان من أكثر الناس الذين عرفتهم خوفًا وحذرًا وريبةً.” وكما ذكر جاكوب برونوسكي Jacob Bronowski على نحو صحيح في كتابه صعود الإنسان The Ascent of Man (1973): “نيوتن هو إله العهد القديم، أما آينشتاين فهو من شخصية من العهد الجديد … مليء بالإنسانية والشفقة ومشاعر تعاطف عميقة”.

يشترك آينشتاين ونيوتن كثيرًا في عملهم العلمي، ولكن مشتركاتهم قليلة جدًا كبشر. على الرغم من تشكيك آينشتاين في العلاقات الشخصية والحياة المؤسساتية، وعلى الرغم من زواجيه غير الناجحين ومآسيه العائلية (قضى ابنه الثاني، إدوارد، عقود حياته الثلاث الأخيرة في مستشفى أمراض عقلية في سويسرا)، إلا أنه لطالما كان شخصية اجتماعية جدًا. كان يتحدث أمام الجماهير بشكل دائم، وداوم على مراسلات كثيرة مع الأصدقاء وزملاء العمل والغرباء، واستمر في بذل الجهود لمساعدة المنافسين والجدد في الميدان العلمي – مثل الرياضي الهندي غير المشهور في ذلك الوقت ساتيندرا ناث بوز Satyendra Nath Bose، الذي ابتكر معه إحصاء بوز-آينشتاين Bose-Einstein Statistics.

 على خلاف نيوتن، لم يكن اختلاف آينشتاين في قضايا العلم والقضايا الأخرى – باستثناء معاداة السامية والنازية – يأخذ طابع الجدال، وقليلًا ما يحمل الضغينة بسببها. لم يكن هنالك أي حقد حتى في معركته الطويلة وغير الحاسمة مع بور Bohr حول النظرية الكمية. كان آينشتاين يضرب بشدة ولكن ليس بهدف الأذى. في جداله مع صديقه المقرب بورن Born حول الموضوع نفسه في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، كان أكثر موقف اقترب فيه آينشتاين من الهجوم الشخصي هو تعليقه الساخر: “استحِ يا بورن، استحِ!”

بالإضافة إلى ذلك، كانت القضايا العامة التي دعمها آينشتاين كلها تقريبًا مثيرة للإعجاب وتنمّ عن نظرة بعيدة. كثير منها تطلب شجاعة أخلاقية. اتخذ مواقف سلبية من – بل وهاجم – معاداة السامية، وفصل السود وإعدامهم دون محاكمة في أمريكا، وحملة صيد الساحرات التي أطلقها ماكارثي[3]، وبناء المجمعات العسكرية-الصناعية، والاندفاع نحو الحرب النووية، وكل ذلك في وقت كان القليل من هذه القضايا يُعتبر إما موضة أو “يستحق الاحترام”. بدلًا من أن يفرح بشهرته وأن يستمتع بالفيزياء والموسيقى والإبحار، كان آينشتاين يحارب ضد القمع كلما اعتقد أن اسمه وسمعته سيكون لهما تأثيرًا إيجابيًا. لا يمكن لنا أن نقول بأن هذه التدخلات المختلفة كانت تدخلات حاسمة، لكن هنالك الكثير من الشهادات على أنه أعطى الأمل للمضطهدين وأنه أثّر في النقاشات العامة. إن حقيقة أن جي إدجر هوفر J Edgar Hoover، مدير مكتب التحقيقات الفدرالي FBI، كان عازمًا على القبض على آينشتاين بصفته متعاطفًا مع الشيوعية تكشف عن مدى الجدية التي واجهت بها القوات المحافظة نشاطات آينشتاين.

الجدير بالذكر هو أن آينشتاين كان بدوره متأثرًا بمهاتما غاندي، وأنه اشترك مع غاندي في لا مبالاته بالنجاحات المادية – على الرغم من أنه كان يرفض وجهة نظر غاندي في أن العصيان المدني يمكن تسليحه ضد النازيين. في عام 1952، أطلق آينشتاين على غاندي لقب “أعظم عبقري سياسي في عصرنا”. لقد أثبت غاندي “حجم التضحيات التي يستطيع الإنسان تقديمها حالما يجد الطريق الصحيح. وأن أعماله لتحرير الهند هي شهادة حية على حقيقة أن إرادة الإنسان المدعومة بقناعة لا تتزعزع هي أقوى من القوات المادية التي تبدو أنها لا تُقهر”.

إن إجابة آينشتاين عن الدين، والتي تعادل إضفاء صبغة دينية على المساعي العلمية، تم أخذها بجدية في المجال الديني. في عام 2004، كتب عالم الأحياء والمحارب الملحد ريتشارد دوكنز Richard Dawkins:

“لقد كان آينشتاين روحانيًا من الأعماق، ولكنه تبرأ من الاعتقاد بالقوى الخارقة للطبيعة ورفض جميع الآلهة الشخصية … إنني أشاركه وبكل سعادة هذه الروحانية الرائعة الخالية من الآلهة. لا يحق لأي متدين أن يتجرأ على إعطاء أينشتاين دروسًا في الروحانية”

كما كشف الفيزيائي ستيفن هوكنغ Stephen Hawking عن نظرة مشابهة إلى آينشتاين حينما كتب في عام 1984:

“إن القول بأن هنالك وجود ما كان هو المسؤول عن قوانين الفيزياء سيكون متسقًا تمامًا مع جميع ما نعرف. ولكن، أعتقد أنه من التضليل أن ندعو هذا الوجود بالإله، لأن هذا الاسم عادةً ما يُفهم بأن له دلالات شخصية غير حاضرة في قوانين الفيزياء.”

ويقول البابا يوحنا بولس الثاني Pope John Paul II أثناء حديثه عام 1979 في الاحتفال بمرور 100 عام على ولادة آينشتاين في الأكاديمية البابوية للعلوم Pontifical Academy of Sciences بأنه[4]:

“يُكنّ كل الإعجاب للعبقري والأعظم من بين جميع العلماء، الذي تجلّت فيه بصمة الروح المبدعة، دون أن أتدخل بأي شكل من الأشكال بالحكم على العقائد المتعلقة بالنظم العظيمة لهذا الكون، وذلك مما لا قدرة للكنيسة عليه، إلا أن الكنيسة تنصح بأن يتم أخذ هذه النظريات بعين الاعتبار من قبل اللاهوتيين لكي يكتشفوا التناغم الموجود بين الحقيقة العلمية والحقيقة الدينية.”

ما هو مقدار تقدير الفنانين لآينشتاين؟ خلال حياة آينشتاين، كتب ماكس برود Max Brod – الوصي الأدبي لفرانز كافكا – رواية تُعد الأشهر من بين أعماله، اسمها “طريق تيغو براه إلى الله Tycho Brahe’s Path to God” (1915)، حيث ترتكز فيها شخصية كبلر بشكل كبير على آينشتاين، الذي تعرف عليه برود في براغ عام 1911 إلى 1912. يعلّق برود بأن آينشتاين “قد أثار دهشتي مرارًا وتكرارًا، كما ملأني بالحماسة كذلك، عندما كنت أرى السهولة التي يغير بها وجهة نظره أثناء النقاشات على سبيل التجربة، حيث يتبنى مؤقتًا وجهة النظر المخالفة، وينظر إلى كامل المسألة من زاوية جديدة ومختلفة تمامًا”. لقد قام كل من ويليام كارلوس ويليامز وإدوارد إستلن والكاتب التشيكي كارل تشابك بذكر آينشتاين في أعمالهم. في مسرحية “حياة جاليلو Life of Galileo” (1943) للكاتب برتولت برتش Bertolt Brecht، يسمي برتشت نفسه “آينشتاين الأسلوب المسرحي الجديد”. منذ وفاته، ظهر آينشتاين بشكل ملحوظ في مسرحية الفيزيائيين The Physicists للكاتب فردرك دورنمات  Fredrich Durrenmatt، وفي أوبرا “آينشتاين على الشاطئ Einstein on the Beach” (1962) لفيليب غلاس Philip Glass، وفي رواية “أحلام آينشتاين Einstein’s Dreams” (1992) للفيزيائي آلن لايتمان Alan Lightman.

أما بالنسبة للتأثير الأكثر وضوحًا لأفكار آينشتاين على الفنانين، فقد كانت هنالك محاولات للربط بينه وبين أعمال إليوت وفرجينيا وولف ولورنس دورل، وغيرهم من الكتاب الحداثيين الذي يستخدمون عدة وجهات نظر. إلا أنه وكما يعترف كتّاب دراسة “Einstein as Myth and Muse” (1985)، ليس هنالك دليل حاسم. في إشارة إلى “رباعية الإسكندرية Alexandria Quartet” لدورل، يعلّق آلن فريدمان وكارول دونلي بصراحة: “فقط لأن الكتّاب يقولون أنهم يستخدمون النسبية لا يعني أنهم يفهمونها أو أن تبنّيهم لمبادئ النسبية ناجح من الناحية الفنية”. وعلى النحو ذاته، يحاول المؤرخ للعلم آرثر ميلر Arthur Miller في دراسته المطوّلة “آينشتاين، بيكاسو: المكان، الزمان، والجمال الهدّام Einstein, Picasso: Space, Time, and the Beauty that Causes Havoc” (2001) أن يربط النسبية مع المذهب التكعيبي في الرسم Cubism، بالقول أن آينشتاين، مثله مثل بابلو بيكاسو، كان متحفزًا لأن يهدم فهم الواقع الذي يؤسس للمذهب الكلاسيكي. وذلك على الرغم من وفرة الأدلة على أن ذوق آينشتاين في الفنون كان كلاسيكيًا جدًا.

من المغري هنا أن نسترجع تعليق آينشتاين على فلاسفة النسبية: “كلما عرفوا أقل عن الفيزياء، كلما زادوا في فلسفتهم”. وربما كذلك نسترجع التحذير الطريف الذي أطلقه الفيزيائي بول ديراك Paul Dirac من محاولات ربط العلم بالفن: “في العلم، يحاول المرء أن يخبر الناس أمرًا لم يعرفه أحد قبل ذلك وبطريقة يفهمها الجميع. أما في الشعر، فالأمر على النقيص من ذلك”.

إن ظاهرة الاستشهاد الخاطئ بأقوال آينشتاين مدفوعة وبشكل كبير برغبة بشرية بحتة نحو الغموض ونحو السُلطات[5]، وذلك ما تجسده الكلمتان “أيقوني” و “عبقري”. في بداية شهرة نظرية النسبية في العشرينات من القرن الماضي، افترض كثير من الناس أنه يمكن الاستشهاد بآينشتاين على أن كل شيء نسبي، بما في ذلك الحقيقة، وأن كل الملاحظات هي ملاحظات شخصية، وأن كل شيء ممكن. يقول الكاتب والمؤرخ والمذيع الأمريكي اليهودي تركل جوردين Terkel Guardian في عيد ميلاده التسعين عام 2002: “أحب أن أقتبس أقوال آينشتاين. هل تعلم لماذا؟ لأن لا أحد يجرؤ على معارضتك”. هذه الجملة الساخرة لتركل هي في حد ذاتها مثيرة للسخرية، نظرًا لعدم ثقة آينشتاين بالسلطات طوال حياته – خصوصًا في مجال الفيزياء والتعليم والسياسة. ولكن، وحتى هنا، فإن الكلمة الأخيرة هي لآينشتاين. في أحد أقوال المأثورة لصديق لا يعرف اسمه، يكتب آينشتاين: “من أجل معاقبتي على كرهي للسلطات، جعلني القدر سلطةً بحد ذاتي”.


الهوامش:

[1]  لا يورد كاتب المقال القصة الكاملة هنا، مما يتسبب في إرباك لفهم القارئ. بعد الرجوع إلى كتب Genius للكاتب Andrew Robinson، وجدت أن بداية القصة كانت تتحدث عن جلسات النقاش التي كانت تدور بين آينشتاين واثنين من مساعديه ممن يجيد الألمانية، إلا أن النقاش كان باللغة الإنجليزية. عندما يشتد النقاش بينهم يلجأ آينشتاين بشكل لا إرادي إلى اللغة الألمانية لأنه يفكّر بشكل أفضل باللغة الألمانية. رابط الكتاب: اضغط هنا

[2]  Lucasian Professor of mathematics منصب عالٍ في جامعة كامبردج

[3]  حملة أطلقها السيناتور الأمريكي جوزف مكارثي Joseph McCarthy تحت عنوان Witch-Hunt يستهدف فيها المتعاطفين مع الشيوعية.

[4]  في المقال الأصلي، يذكر الكاتب بأن البابا كان يتحدث عن نفسه، ولكن عند الرجوع إلى الخطاب الأصلي وجدت بأنه كان يتحدث عن الكنيسة وباسم الكنيسة. ولذلك قمت بترجمة النص الذي أورده كاتب المقال كما هو، وهنا ترجمة النص الأصلي الذي وجدته في الخطاب الكامل:
“إن الكنيسة، مع ما تكنه من إعجاب كبير للعبقري والعالم العظيم الذي تجلت فيه بصمة الروح المبدعة، ومن دون أن تتدخل في إطلاق أحكام ليست في نطاق قدرتها فيما يتعلق بالطرق الكونية العظيمة، إلا أن الكنيسة تقترح أن يتقكر اللاهوتيون في هذه الطرق ليكتشوا التناغم الموجود بين الحقيقة العلمية وبين الحقيقة الدينية”

[5]  تجدر الإشارة هنا أن معنى السُلطة في السياق هو الشخصية ذات الكلمة المسموعة والوزن الثقيل في مجالها، مثل آينشتاين نفسه الذي يُعتبر سلطة في مجال الفيزياء.


ترجمة: علي الحاجي @AliHajji93

المصدر: اضغط هنا

ضع تعليقك