هوية يابان ما بعد الحرب من خلال أنمي الآليين، غرانديزر نموذجا.

هوية يابان ما بعد الحرب من خلال أنمي الآليين، غرانديزر نموذجا.

تأليف: ماركو بيليتيري Marco Pellitteri

العنوان الأصلي:Japanese Postwar Identity in Robot Anime and the Case of UFO Robo Grendizer

ترجمة: علي حسين العامر

هذا المقال مترجم بترخيص من الناشر، جميع الحقوق محفوظة، ٢٠٠٩, جامعة مينيسوتا.

الترخيص غير حصري ويحظر بيع هذه الترجمة.

قد يبدو من الوهلة الأولى أن هناك تناقض قوي في فكرة أن الآليين العمالقة القادمين من الفضاء في الأنمي[i] الياباني يمثلون هاتين الحالتين المتناقضتين: الغزاة الشموليين، وقدامى الأمريكيين الصالحين المدافعين عن الحرية والعدالة، لكن في الواقع هذا التناقض يمكن رؤيته بشكل جلي في أكثر من مسلسل من مسلسلات أنمي السبعينات. في هذه المقالة، سوف أقوم بتحليل هوية يابان ما بعد الحرب في السبعينات، وخاصة ما يتمظهر منها في سياق العلاقة المعقدة بين اليابان والولايات المتحدة، وسيكون هذا التحليل عبر قراءة في مسلسلات الأنمي ذات المواضيع المتعلقة بالمغامرات والتقنية والحرب. سأركز على مسلسل ممثل لهذا النوع من الأنمي، وهو مسلسل يوفو روبو غرانديزر UFO Robo Grendizer,[ii] وهو مسلسل يعرض آلياً عملاقاً يدافع عن البشرية, في رمزية يمكن أن تشير لعلاقة اليابان بالولايات المتحدة ودول أخر. [iii] لن أقوم بتناول العناصر الأساسية المتعارف عليها في الأنمي، بل سأركز على العناصر الهيكلية والسردية والرمزية[iv].

أزعم أن البطل الرئيسي ورجله الآلي في مسلسل غرانديزر-إذا وضعنا في الحسبان السياق الجيوسياسي لليابان-ما هما إلا صورة مجازية للعلاقة بين اليابان والولايات المتحدة، حيث تتعاون الشخصيات اليابانية والأمريكية في مواجهة الغزاة الشموليين. إن التوجه السياسي المفترض لقوات فيغا -أعداء الشخصية الأساسية – لم يتم تحديده فيما إن كان فاشياً أم شيوعياً، لأن اليابان في فترة ما بعد الحرب كانت ضد هذين النظامين الشموليين. ومع ذلك، يمكن أن يستشف من طريقة رسم الشخصيات وأسلوب تصميم أشكال الفضائيين الأشرار بأنهم يحملون سمات مزدوجة تتراوح بين السمات شبه الفاشية/النازية وكذلك السمات شبه السوفياتية. قد توحي السمات – بشكل خفيف لا واعي – بأنها سمات شيوعية. يمكن تفسير تلك السمات جزئياً عبر الرجوع إلى فهم الحالة السياسية في شرق آسيا في سبعينيات القرن الماضي وفهم العلاقة بين اليابان والولايات المتحدة.

ستقودنا دراسة حبكة المسلسل إلى رؤية العلاقة بين روح العصر zeitgeist اليابانية في سبعينيات القرن الماضي، وبين أفكار ناغاي Nagai مخرج المسلسل، واستيديو توئي أنميشن Toei Animation المنتج آن ذاك. يركز المسلسل في المقام الأول على دور اليابان في آسيا، التي كانت وما زالت تمتلك وضعاً جيوسياسياً حساساً. لقد تم الافتراض في هذا المسلسل أن الأرض لديها قيم مركزية، وهي المكان الوحيد المناسب للحرب ضد الأعداء الذين لا يقهرون. مسلسل غرانديزر هو الجزء الثالث من ثلاثية للمخرج ناغاي واستيديو توئي، وأما المسلسلين الذين سبقوه هم: مسلسل مازنجر زد Mazinger Z ومسلسل مازنجر Great Mazinger . [v]وقد سميت هذه المجموعة بـثلاثية مازينساغا Mazinsaga. [vi]

قصة غرانديزر تبدأ بتدهور مملكة سديم فيغا: فبسبب الاستخدام المستهتر للطاقة النووية، انفجر الكوكب الرئيسي للمملكة وأصبح غير قابل للسكن بسبب أشعة الفيغاترون المهلكة. عندها قام الملك فيغا،[vii]  الذي سخَّر نفسه وجنوده في سبيل مهاجمة النظم الكوكبية الأخرى، بالهجوم على كوكب فليد الآمن ليذيق أهل ذلك الكوكب لِباس الجوع والخوف ولم يَنْجُ منهم إلا عدد قليل. وكان من بين الناجين، الأمير دوق فليد، الذي هرب بمركبة غرانديزر الخارقة بعد الاستيلاء عليها، وهو سلاح طورته قوات فيغا باستخدام تقنية كوكب فليد. وقد شهد دوق فليد قبل هروبه وفاة والديه والموت المؤقت لكوكب فليد، الذي أصبح قاعاً صفصفاً ملوثاً بأشعة الفيغاترون. وبعد رحلة هروبه بين النجوم، عثر على كوكب الأرض وهبط في اليابان، في وادٍ أخضر على مسافة قريبة من طوكيو.  وهناك عثر عليه مركز أبحاث الفضاء، الذي يشرف عليه الدكتور أومون غينزو Umon Genzō،[viii] الذي أصبح فيما بعد صديقاً له وأخفى مركبة غرانديزر في مرأب الطائرات السري لمركز أبحاث الفضاء. كما قام بإخفاء هوية دوق فليد، وأسماه دايسكي Daisuke، وقدمه كأبن له. في إبان ذلك، كانت قوات فيغا تبحث عن مستقر لها لتهبط فيه، وذلك بسبب الخراب الوشيك لمملكتهم التي سببته الأنشطة الإشعاعية. عثرت قوات فيغا على كوكب الأرض، لكنهم أخفوا أنفسهم في قاعدة سرية في الجانب المظلم من القمر، وذلك للإعداد لهجمة باستخدام مركبة إنبانجو enbanjū (صحن الوحش الطائر   monstersflying saucers). كان جينزو ومساعدوه الثلاثة يترقبون رجوع كابوتو كوجي Kabuto Kōji إلى اليابان من الولايات المتحدة، وقد رجع فيما بعد في مركبة تيفو TFO [ix] , وهي عبارة عن طبق أرضي طائر من تصميمه الخاص، وكان رجوعه بعد سنة قضاها في وكالة ناسا مشرفاً على أبحاثٍ في مجال الأطباق الطائرة وتقنيات الطيران فيها. عاد كوجي إلى مزرعة شيراكابا Shirakaba (البتولا البيضاء)، التي يملكها ماكيبا دانبي Makiba Danbei، وهو أب لكل من هيكارو Hikaru الجميلة والفتى غورو Gorō . حاول دوق فليد التظاهر بأنه شاب عادي محب لحياة الريف لإخفاء هويته الحقيقية، لكن كوجي أحس بأن هناك ما يخفيه، حتى اكتشف حقيقته في وقت لاحق، وتكونت صداقة قوية بينهم.

في تلك الأثناء، أجهزت قوات فيغا على الأرض، فأضطر دوق فليد، الذي يفضل السلام، بأن يأخذ بزمام مركبته غرانديزر من جديد للدفاع عن هذا الكوكب الجديد الذي احتضنه. وبعد معارك عديدة، اكتشف دوق فليد أن أخته، ماريا غريس Maria Grace، لم تمت على كوكب فليد، وإنما هربت منه، ويعود فضل هروبها إلى رجل عجوز من كوكب فليد، قام بتهريبها إلى كوكب الأرض وأدعى بأنه جدها وأخفى عنها أن كوكبها قد تدمر. لكنه بين لها الحقيقة قبيل موته أثناء احتضاره. في وقت لاحق في لحظة درامية، تعرف الشقيقين الأرستقراطيين القادمين من كوكب فليد، ماريا ودوق فليد، على بعضهما وتعاونا في تحقيق هدفهما المشترك.

image002
صورة 1:  “الأشخاص الطيبون” في مسلسل غرانديزر. يلاحظ في الأسماء اليابانية تبدأ باسم الأب أولا.  الأشخاص من اليسار، والمعطين ظهورهم للصورة: كابوتو كوجي، وماكيبا دانبي، ثم ابنه الصغير ماكيبا غورو. الأشخاص من اليسار والمقابلين بوجوههم للصورة: الدكتور آمون غينزو، ثم الدوق فليد بملابسه الأرضية (ويعرف باسمه الأرضي المستعار أمون دايسكي)، ثم أخته ماريا غريس فليد، وفي الأخير في أقصى اليمين ابنة دانبي: ماكيبا هيكارو. جميع الشخصيات الأرضية يابانية، لكن مظاهرهم تعكس أشكال الأفلام الغربية، وهذا من الأمور التي جعلت هذا المسلسل مطلوبا من قبل المنتج الأمريكي جيم تيري عام 1979. UFO Robo Grendizer, copyright Nagai Gō / Dynamic Production / Tōei Dōga. Images provided thanks to the help of Francesco Anteri ( www.tanadelletigri.info ).

كان طبق كوجي الطائر يساند غرانديزر أثناء القتال، لكنه تحطم فيما بعد أثناء أحد المعارك، لذلك أصبحت هناك ثلاث مركبات مختلفة صنعها اليابانيون ويقودها كوجي وهيكارو وماريا، ومركباتهم: السبايزر المزدوج Double Spacer، والسلاح الملاحي Marine Spacer، والسلاح الثاقب Drill Spacer.[x] تتميز هذه المركبات بقدرتها على الالتحام مع غرانديزر أثناء القتال جواً أو بحراً أو تحت الأرض. بعد سلسلة طويلة من الصراعات والقتال مع قوات فيغا وغدرهم المستمر، دخلت الحرب في مرحلتها الأخيرة. حيث رفض الملك فيغا والقلة المتبقية من أذنابه الاستسلام لقوة خصومهم أو الانصياع لعقد أي اتفاقية مع حكومات الأرض، بل حاولوا تلويث الأرض عبر هجمة انتحارية أخيرة. لكن غرانديزر وفريقه كانوا لهم بالمرصاد، حيث التحمت مركبات الفريق الرباعي، مسلحين بأسلحة فضائية خارقة، للتصدي لهجمة قوات فيغا قبل أن تصل مركبة الملك فيغا إلى الغلاف الجوي وتدميرها من قبل الفريق البطل. أصبحت الأرض بعد تلك المعركة آمنة مستقرة وأصبح بالإمكان عودة دوق فليد وأخته ماريا إلى كوكب فليد، الكوكب الذي قد تعافى بعد الاختفاء التدريجي لأشعة الفيغاترون وبفضل جهود البطلين المنفيين.

الأشرار باعتبارهم غزاة شموليين.

إن أكثر الأمور البصرية لفتاً للانتباه عند قوات فيغا، هي تصاميم تلك العناصر والأشياء التي يملكونها، حيث تحاكي في مظهرها أموراً عضوية، والأمر الآخر هو ذلك الانطباع التي تثيره مركباتهم وآلييهم بأنها متعلقة بالفلكلور الياباني.  إن صور آليي الأشرار وشخصياتهم الأخرى تجلب للأذهان أيقونة غيلان الأوني[xi] الفلكلورية اليابانية – ويمكن تطبيق تلك الصورة أيضاً على غرانديزر –، ويمكن رؤية الأشكال النباتية في بنية وتصميم قاعدة قوات فيغا الموجودة على سطح القمر، التي تحاكي التركيبة التشريحية للنباتات، كما أن برج القاعدة يشبه النبتة ويحاكي في بعض خصائصه عمليات الإزهار في النباتات. تصميم المركبة الأم لأسطول قوات فيغا تذكرنا بالأشكال الحيوية التي عرضت في فلم حرب العوالم The War of the Worlds. [xii] الغرف مزينة بعناصر تحاكي الأجهزة الخلوية المجهرية، أما العناصر الأخرى، بما فيها أسلحة الجنود، تبدو كأنها مخلوقات نباتية من أفلام الخيال العلمي من خمسينيات القرن الماضي. [xiii]

في مسلسل غرانديزر، وكذلك في أعمال ناغاي الأخرى، يوجد تمايز واضح بين مخيمي الشر والخير: إذ تكون تقنية الفضائيين الأشرار فجة مقززة وذات طابع سبراني آلي، مقارنة بتقنيات اليابانيين – الخيرين -النظيفة والمتزنة والمنفصلة عن البشر لكنها متصلة بهم. يُصَوَر “العلم الشرير” القادم من خارج اليابان على هيئة غُزاة لا يرقبون إلاً ولا ذمة بالمدنيين. على كل حال، يكمن الفرق بين أشرار الأعمال الأخرى لناغاي وأشرار مسلسل غرانديزر، بأن الأشرار في الأعمال الأخرى ليسوا فضائيين (لأن هناك من يأتي من تحت الأرض أو من ماضي اليابان) أما أشرار مسلسل غرانديزر فهم فضائيين، وهذا الفرق يطرح معالجة مختلفة لمشكلة الصراع وللتأويلات الأخرى المحتملة لماهية الأعداء في هذا الأنمي تحديداً، وسيأتي توضيح ذلك لاحقاً.

تتميز قوات فيغا بأنها ذات ترتيب هرمي، تكون فيه العلاقة باردة وغير إنسانية بين الضباط الأشرار وجنودهم. وهي إحدى الكليشيهات المتكررة في قصص المغامرات المصورة وأفلام الكرتون، سواء كانت أمريكية أو يابانية. كما يتم عرض الجنود كأشخاص مجردين من الفردانية. وأما الجنرالات، فإنهم يتسمون بسلوك عدواني تجاه مرؤوسيهم من الضباط والجنود، ويمكن رؤية ذلك السلوك العدواني أيضاً عند الملك فيغا مع أتباعه، وهذا ما يبين ضيق الأفق الأخلاقي للأشرار. هذه الصيغة السردية تَسلخ العدو من صبغته الإنسانية لدى المتلقي. لا يولي الأشرار أي مشاعر إيجابية حقيقة تجاه بعضهم، باستثناء مشاعر التبجيل والخوف تجاه الملك، وأما مشاعرهم السلبية فإنها توجه لباقية المخلوقات خارج مجموعتهم.

هناك استثناءات قليلة أنشأها مؤلفي غرانديزر لكسر هذه القاعدة السردية، وذلك لتجنب خلق صورة أخلاقية أضيق من اللازم عن الأعداء، وهذه الاستثناءات تتمثل في ذلك الحب الأبوي من ضابط رفيع المستوى، وهو زوريل مع علاقته بأبنه، وكذلك في العلاقة الأبوية التي ربطت القائد فيغا مع ابنته، وهو حب كسرته أيديولوجيا الآباء، بسبب حالة الإكراه العسكري في صفوف قوات فيغا.

image004
صورة 2: صورة مقربة بالتفاصيل لعين زوريل اليسرى. وهي عين حيوتقنية بايونية bionic تدمج بين المعدن والجسد, وهو ما يمثل تزاوج العضوي بالتقني, مع تأثير وحشي أكثر من أن يكون بشرياً. Zuril and UFO Robo Grendizer,copyright Nagai Gō / Dynamic Production / Tōei Dōga.

يتخذ الصراع بين مخيمي الشر والخير في هذا المسلسل شكلاً مانوياً[xiv]، حيث يمثل الأعداء الشر المطلق. في هذا العمل، هناك آليتان رمزيتان يستطيع تمييزهما الجمهورين الياباني والأوربي على حد سواء: وهي تلك التحيات العسكرية شبه الرومانية، وكذلك ضربات الأحذية التي يؤديها الضباط غاندال وزوريل وبلاكي، وهي تحية مقتبسة من تحيات النازيين/الفاشيين. الغاية من تصوير الأشرار بهذه الطريقة، هو عزلهم عن أي ارتباط دلالي باليابان. الآلية الثانية المستخدمة تكمن في التبسيط الأخلاقي للأعداء، وهو أسلوب متبع في الحروب الدعائية يهدف إلى تشيؤ[xv] العدو. هذا الأسلوب النفسي ليس مقتصراً على الأغراض الحربية فحسب، فلقد تم دراسة وتوثيق هذا النوع من الأساليب النفسية في الصراعات بين الجماعات. يجدر القول بأن هذه الأساليب المستخدمة في تجريد الأعداء من بشريتهم في غرانديزر لا يبدو أنها متعمدة من أجل تبرير أفعال البطل. في مسلسلات ناغاي الأخرى، ظهر تفريد individuation الأعداء في مواضع كثيرة، وهذا ما يضع احتمالاً بأن الآليين وجدوا كمجرد دٌماً.

image006
صورة 3 : غاندال يؤدي تحية رومانية. . Gandal and UFO Robo Grendizer, copyright Nagai Gō / Dynamic Production / Tōei Dōga.

لكن بإمكاننا أن نستشف من هذه البنية السردية ظلاً لثلاث دلالات أخرى. الدلالة الأولى تتعلق بمسألة ماضي اليابان الدموي الإمبريالي العالقة في الأذهان من الناحية التاريخية. في العديد من الأنميات اليابانية، يتم التطهر من هذا الماضي عبر تلبيس اليابان دور ضحية للعدوان الدموي، وذلك من خلال قلب دور الضحية والجلاد رأساً على عقب. هناك نوع من التماس الغفران الرمزي وإن كان عبر المسلسلات التلفزيونية الخيالية[xvi]. الدلالة الثانية مختصة بالصورة المجازية للغزاة الذين يهاجمون اليابان بأسلحتهم الغامضة، لكن في هذا الأنمي، أصبحت اليابان قادرة على الرد وتملك فوق هذا أسلحة متطورة تقنياً. أما الثالثة الأخيرة، فهي قد تكون الأكثر إثارة للاهتمام، وقد تشرح بعض القضايا العالقة المتعلقة بالدور السياسي ليابان ما قبل الحرب.

التوازن الرمزي بين دوري الضحية والجلاد: التعاون بين كوكب الأرض وكوكب فليد كمجاز لمحور اليابان-الولايات المتحدة

لو نظرنا إلى دوق فليد وآليه المتطور، باعتبارهما أجنبيين يملكان علوماً متقدمة وعتادًا مسلحا ضخم، فإننا سنجد أنهما يشكلان صورة مجازية عن الولايات المتحدة في مستقبل غامض – أو حاضرٍ بديل – حيث أرسيت دعائم الديمقراطية في اليابان، في العالم الحقيقي، بأمريكيين حقيقيين. في هذا الأنمي، لا يأتي التهديد المجازي من الجهاز العسكري الأمريكي الذي سبق وتحول من خانة العدو لخانة الحليف عبر عملية الإصلاح الثقافي خلال احتلال اليابان بعد هدنة 1945، وإنما يأتي التهديد من جهة مختلفة تماماً، وهذا ما يفرض أن تستنبط شخصية العدو المجازية من مكان آخر.

كما هو الحال في الأدب القصصي الخيالي، تقوم مجموعة صغيرة من الأبطال بمقاومة قوى الشر الضخمة. وهذا ما نراه في مسلسل غرانديزر، حيث تقوم مجموعة صغيرة بالاتحاد للقتال ضد قوى الشر المتفوقة عددياً وتنظيمياً. وبعد أن تفاجئ الأبطال في المرة الأولى بقوة وبطش الفيغانيون، توجب على الأبطال الإيمان بأن قدرهم هو القتال من أجل نجاتهم، وأن يركزوا على تبادل المشاعر الإيجابية بين أعضاء الفريق.

تتميز شخصيات الراشدين عمرياً المديرين لاستراتيجيات القتال ضد الأعداء، في أنميات الآليين التي أخرجها ناغاي، بأنهم دائماً ما يكونون آباءً بيولوجيين أو آباءً بالتبني. هناك تباين بين شخصيات الشبان (دوق فليد وكوجي وهيكارو وماريا) وشخصية الراشدين الأكبر عمراً منهم في مسلسل غرانديزر، وتحديداً شخصية الدكتور أمون. يتميز كوجي بشخصية اقتحامية، وهذا ما يجعله ينغمس في الحرب، بينما يتميز دوق فليد بشخصية مسالمة ممانعة لاستخدام غرانديزر، وهاتين الشخصيتين مغايرتين لتوجيهات الدكتور أمون الحربية. إذ يرى الدكتور أن الحرب أمراً لا مفر منه، لكن يجب إدارتها والتعامل معها بحكمة وروية. يتعامل فليد وكوجي مع قرارات الدكتور أمون بأنها قرارات حكيمة لا نقاش فيها، ولم يحدث أن تم مناقشة قرار له من قبل. نعم، كانت هناك حركات شبابية غزت العالم الحقيقي وبلغت ذروتها في سبعينات القرن الماضي، لكن هذا المسلسل يقدم اليابان كمجتمعٍ بسيطٍ وصالح، ما يزال متمسكاً بالتعاليم الكونفشيوسية بصرامة (أو الكونفشيوسية الجديدة)، أي أن الأبناء يجب عليهم احترام الآباء، والرموز الأبوية بشكل عام.

يميل مسلسل غرانديزر، كغيره من أفلام الكرتون الموجه للأطفال –سواء كانت يابانية أم لا-إلى تبسيط بيئة القصة. الحرب المتقدة بين البشر وقوات فيغا ذات طابع محلي بحت: إذ تدور رحاها في جزيرة هونشو اليابانية التي تضم في جنباتها مدينة طوكيو وجبل فوجي ومنظمة الدكتور أمون العلمية، وكذلك مزرعة شيركابا الخيالية التي يعمل فيها دايسكي (الدوق فليد) والقريبة من المنظمة التي يجثم تحتها غرانديزر مختبئاً، وهي تبعد مئات الكيلومترات عن طوكيو من ناحية الغرب في أعماق غابات شجر البتولا، وهي تضاهي في العالم الحقيقي المناظر الطبيعية لمحافظة ياماناشي، التي قد تم محاكاتها بإتقان في هذا الأنمي.[xvii]

يرى الفيغانيون أنه من أجل السيطرة على الأرض، لا بد من تدمير غرانديزر أولا، أو الاستيلاء عليه كخيار أولى. ولهذا يقومون بتكثيف جهودهم وتركيزها في البحث عن المكان المحتمل لغرانديزر. هناك غياب واضح للنظام العالمي بتعقيداته الدولية في الدفاع عن الأرض ضد قوى الشر، وقد برر هذا الغياب ضمن سياق السرد بأن غرانديزر وحلفاءه اليابانيون هم الأجدر في محاربة الأشرار المتفوقين علمياً. هناك تبرير سردي أعمق، وهو أن هذا المسلسل يحتوي على مجموعة من الأرضيين والفليديين الذين التقوا بشكل عفوي واتحدوا بشغف لقتال نظام عدواني جاف غابت فيه المشاعر بين صفوفه.

هناك مجموعة متلاحمة تتشارك أرضاً تمثل لهم وطناً (أو شبه وطن)، ويقاومون غزاة لا يبالون بقداسة تراب تلك المنطقة التي يهاجمونها. تاريخياً، تعتبر جزيرة هونشو – التي تدور فيها أحداث المسلسل -النواة التي انبثقت منها فترة ياماتو الأسطورية[xviii]، التي يعتقد أن السلالة الإمبراطورية تأسست فيها إبان القرن الثالث الميلادي. إن التصوير المتكرر لذات المكان في كل حلقة يوجه انتباه المشاهد لمناظر طبيعية لحدٍ تصبح فيه تلك المناظر الطبيعية “وطنا” مألوفاً.  يقوم المشاهدين بشكل عام، واليابانيين منهم بشكل خاص، بإعطاء هذا الوطن المتخيل للأبطال قيمة مقدسة خاصة، وذلك لسببين؛ أولهما، بسبب تكرار الرموز البصرية، والثاني هو بسبب الارتباط الرمزي المباشر – من وجهة نظر طبيعية -بأسطورة الياماتو، إذ أن حمرة شمس الشروق والمغيب تصور الشكل النموذجي للمناظر الطبيعية اليابانية الخلابة.

وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظةٍ عن التفوق الأخلاقي المفترض للأبطال: في مسلسلات الأنمي المشابهة لغرانديزر، أخلاق الأبطال السلمية ليست طريقة لاستعراض تفوقهم الأخلاقي أمام أعدائهم. بالطبع، هناك تأكيد على الأهداف القومية اليابانية والأعمال الإمبريالية خلال فترة الاستعمار، بالإضافة إلى النظرة إلى التاريخ من وجهة نظر الفلسفة اليابانية، وهي تفصح عن ترسيخ قوي للهوية الوطنية، التي تزعم أن لليابان تفوقاً على الحضارات الغربية والأمم الأسيوية الأخرى[xix]. لكن في حالة الصراع في مسلسل غرانديزر، وغيره من مسلسلات أنمي الآليين والخيال العلمي في السبعينات، نرى أن التفاوت الأخلاقي بين الأبطال والأعداء ليس على المستوى الأنطولوجي، لأن مسلسلات الأنمي تلك تشدد على فكرة أن يتحلى الأبطال بالسلوك العقلاني الرشيد والاختيار الحكيم بين الخير والشر.

اليابان والولايات المتحدة، والسيناريو الجيوسياسي لفترة ما بعد الحرب

في سبعينيات القرن العشرين في اليابان، انتهت مرحلة ما بعد الحرب، وأدى ظهور أزمة الطاقة عام 1973 لوضع حد فاصل واضح بين نهاية العصر الصناعي وبداية عصر ما بعد الصناعة (وعصر ما بعد الحداثة). كانت اليابان في ذلك الوقت تدير علاقات معقدة مع الولايات المتحدة، وتتعامل في نفس الوقت مع مواقف صعبة مع الدول الأسيوية الأخرى.

لكي نحصل على فهم أفضل عن كيف كان ناغاي ومنتج السلسلة (أثناء انتاج المسلسل في منتصف السبعينات) يرون اليابان والحرب والوضع الجيوسياسي الياباني، علينا أن نتذكر أن مسلسل غرانديزر عبارة عن جزءٍ ثالثٍ من ثلاثية بدأت بمسلسل مازنجر زد ومازنجر العظيم. في أول مسلسلين كان الاتحاد المتوحش بين القطبين الحيواني والآلي عند الغزاة يمثل صورةً للانحلال الأخلاقي في استخدام الأسلحة عند الغرب. وهذا صحيح إذا ما نظرنا للموضوع من وجهة نظر شعار ال “واكون يوساي wakon yōsai[xx]، الذي يزعم أن هناك توازن تاريخي بين روح اليابان وعلوم الغرب. أما في مسلسل غرانديزر، فإن عرض الرمزيات صار أوضح بكثير من المسلسلين السابقين: إذ أن كلا الأعداء والأبطال أتوا من خارج الأرض ويقاتلون على الأراضي اليابانية. أما اليابان فإنها ستشل عن التحرك، كما حدث تاريخيا بالفعل، بواسطة قوى أكبر بكثير منها إن لم يدخل في اللعبة نظام موازنة للقوى: حتى لو كان غرانديزر وطياره عبارة عن فضائيين غريبين ومتقدمين تقنياً على العلوم اليابانية (حيث تم تمثيل الأخيرة بالدكتور أمون ومنظمته)، فإنهما لن يتمكنا من تأمين سلامة وطنهم الجديد إلا بعد التقيد بالأوامر الأخلاقية والروحية (من أصحاب الأرض نفسها) وليس بالخطط العسكرية الاستراتيجية فقط.

لقد لاحظ ويليام جيبسون بأنه بعد التحول التقني السريع المدار من قبل الحكومة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين، وبعد جنون العظمة الإمبريالية عند نهاية حرب المحيط الهادي، أن اليابانيون وجدوا أنفسهم أمام عدو

((يسوس تقنية قد تكون قادمة … من مجرة بعيدة. ومن ثم تحول أعدائهم الغزاة الأمريكان الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، إلى فئة لطيفة وديعة مبتسمة تحاول بطموح إعادة هندسة الثقافة اليابانية. … ومن ثم غادر هؤلاء وعلقوا برنامجهم الكبير في اليابان، وغادروا لمحاربة الشيوعية بدلاً عن مشاريعهم في اليابان.))

[تم إضافة توكيدات على الاقتباس][xxi]

الأعداء في أول مسلسلين من هذه الثلاثية، ولدوا من رحم الميثولوجيا الغربية.  فلقد أتى الأعداء في أول مسلسل، من حضارة قديمة من جزيرة باردوس[xxii] اليونانية الخيالية. أما في المسلسل الثاني فإنهم أتوا من موكناي Mycenae [xxiii]الأسطورية. لهذا يبدو وكأن اليابان تقاتل ضد صورة مجازية للغرب. المسلسلين الأولين من ثلاثية مازينساغا يشيران بأن اليابان قد تعرضت للاعتداء من قبل حضارة أثرية عظيمة كانت متقدمة في الماضي تؤتي أكلها كل حين، لكن هذه الحضارة انتهت وهزمت وأصبحت كالصريم في المسلسل بسبب العنصرية الوطنية الفجة.

تلك الحضارة الغربية التي كانت عظيمة في يوم ما، أصبحت الآن حضارة منحطة مقارنة بماضيها التليد، بسبب انهماكها في تصنيع وحوشٍ هجينة مرعبة. ويرجع الفضل في دحر تلك الوحوش القادمة من الماضي إلى المميزات التي تتمتع بها الروح اليابانية وإلى قوة مازنجر زد ومازنجر العظيم. يبدو أن أحد المستشرقين الذاتيين[xxiv] قد أجاب عن هذه المشكلة الغربية في أحد محاضراته: فوفقاً لهذه المحاضرة، اندمجت المعرفة اليابانية مع معارف وثقافات مناطق مختلفة، واتحدت قيمها الروحية المحلية مع قيم العلوم الأوربية-الأمريكية (أو ما يعرف بالواكون يوساي).

يبدو أن مازنجر العظيم كان ناقوساً تحذيرياً لليابان بسبب وقوعها ضحية في شراك أزمة الهوية، اللي تشكلت جزئياً إثر نموها البعيد عن الولايات المتحدة، لكن يبدو أن هذه الأزمة قد حُلت في مسلسل غرانديزر، فلقد وضعت اليابان في موضع القائدة الأسيوية وصاحبة القوى العالمية المتقدمة، والتي تحررت أخيراً من احساسها القديم بالدونية.[xxv]

الخلاصة: القلق الياباني من طوق الشمولية.

في مسلسل غرانديزر، يمكننا أن نرى من عبر الصورة المجازية للشمولية، نسخة أولية من فلسفة التاريخ الافتراضية لليابان المعاصرة. لقد أتى فصيلين فضائيين غريبين عن الأرض، الفيغانيون والفليديون، وبين هذين الفصيلين المتصارعين كانت تقف اليابان حليفة للفليديين. لو قلنا بأن غرانديزر حليف الأرض هو الصورة المجازية للولايات المتحدة في فترة التمدد (التي قامت فيها الولايات المتحدة بهدنة منذ عام 1945، بلعب دور الشرطي المدافع دفاعاً غير مشروط لحليفته اليابان) وهنا قد يتساءل السائل: من هم الفئة التي يمثلها الفيغانيون؟

يمكن أن تُستَشف الإجابة على هذا السؤال من الجملة الأخيرة من اقتباس غيبسون الذي أوردناه سابقاً. لقد أشار غيبسون إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن شاركت بعد الحرب العالمية الثانية بإرساء دعائم الديموقراطية وعملية التحديث الدراماتيكية لليابان، قامت في عام 1952 بالتخلي عن احتلالها لليابان بسبب ارتباط الولايات المتحدة بجبهات أخرى. أو بالأحرى، لقد كانوا منشغلين باستراتيجيات احتواء الحرب الباردة للحؤول دون توسع الكتل الشيوعية آنذاك. وفي غضون احتلال اليابان، وحتى بعد السنوات التي تلتها، وجدت اليابان نفسها محاصرة إقليمياُ بدول قد اعتنقت النهج الشيوعي الشمولي، ما بين ثورة ماو الثقافية في جمهورية الصين الشعبية، والدول الأسيوية الأخرى الموالية للسوفيات كفيتنام وكورية الشمالية. بقيت اليابان لوقت طويل تعتبر نفسها محاطة بأمم تعيش تجربة تحول سياسية عميقة ومضطربة. لذلك شرعت اليابان بعدها بتعبئة وتغذية احساسها بأنها وحدة سياسية مستقلة عن قارتها آسيا وأقرب إلى الغرب.[xxvi]

النتيجة كانت أن الثقافة الوطنية السياسية – التي كانت لأسباب داخلية دائماً ما تستند على تلك القيم التي سيكتب لها لاحقاً أن تندمج مع أيديولوجيا وسط اليمين الأكثر حداثة – منذ بداية الحرب وهي تتأرج بين تيار الليبرالية المستنير وبين تيار المحافظون الجدد ذو النمط الأمريكي.  ليست المسألة هنا في أن القوى السياسية تمركزت في الغالب في الائتلافات المعتدلة: كالأحزاب الليبرالية، والديموقراطية والأحزاب الليبرالية الديمقراطية. فالأحزاب اليسارية، التي غالباً ما يزعجها صوت المعارضة الداخلية، كانت تصل أيضاً إلى ثقة المصوتين في حالات قليلة.

وصف إدوين رايشاور في دراسته التاريخية الكلاسيكية، أربعة عوامل نفسية وفكرية أساسية أثرت على شكل يابان ما بعد الحرب. العامل الأول هو فقدان الثقة في النفس التي سببتها الخسارة وعملية نزع التسلح بالإضافة إلى الاحتلال التي تعرضت له.[xxvii] هذا وأصبحت الوطنية والقومية مجرد قيم محرجة لليابانيين، نظراً للتأثيرات السلبية التي تعرضوا لها لعقود. أما الاقتصاد والثقافة فأصبحت مواضيع أكثر عالمية، من وجهة نظر الأجيال الشابة تحديداً.  لقد وُصِف الموقف الياباني هذا بأنه مفتقر للإيمان بالذات وتكبرٌ غير واعٍ تجاه باقية الدول الأسيوية. لقد آلت اليابان من بعد التقدم العلمي والصناعي في نهاية القرن التاسع عشر إلى الميل لمقارنة نفسها مع القوى الغربية، لا الأسيوية. [xxviii]

أما العامل الثاني المؤثر على شكل يابان ما بعد الحرب، فيمكن تلخيصه بفكرة السلمية الحصينة، وهي فكرة نتجت كرد فعلٍ على كارثة الحرب وأوزارها. لقد أتضح لهم أن ذوي النزعة العسكرية كانوا مخطئين وأن البلاد يجب أن تتجنب خوض الحروب في المستقبل؛ لقد كان الشعور العام يعارض جذرياً فكرة حيازة الأسلحة الذرية والتجارب النووية، سواء في الأراضي اليابانية أو أي أرض أخرى، بما فيها الولايات المتحدة على وجه التحديد.[xxix] تنص المادة التاسعة من الدستور الياباني على الحق السيادي في نبذ الحرب والوعد بالبقاء دون التسلح بأي قوى عسكرية هجومية. ولهذه الأسباب، نمت لدى البلاد فكرة مفادها أنها ستحتاج إلى حماية ضد القوى الشيوعية النامية في المنطقة الأسيوية؛ وهذا أدى بدوره إلى تأسيس معاهدات تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولعقود طويلة، أصر الرأي العام والمواقف السياسية على التمسك بنهج الحياد الدولي بصرامة.

العامل الثالث هو اختراق المذهب الماركسي للمجتمع الياباني. ففي الفترة التي كان فيها الفكر اليميني آخذ في الاضمحلال، وجدت الأفكار الشيوعية والاشتراكية تربة الخصبة ذات عداءٍ تلقائي للتفكير التقليدي، والتي استخدمت أيما استخدام لوضع الإمبراطور في مركزها.[xxx] وعلى الرغم من شيوع الفكر المعتدل أو المحافظ في اليابان في تلك الفترة، قامت الماركسية بنسختها الجديدة بضرب جذورها عميقاً في تلك البيئة أعمق مما كان يعتقد سابقا. ومع ذلك، فإن الممثلين السياسيين المتبنين لهذا الفكر قد انقسموا وكثر الخلاف بينهم، كما يحدث غالباً في البلدان الديمقراطية الأخرى، ولم يؤدي ذلك إلى خلخلة الحياة السياسية اليابانية. والأهم من ذلك كله، أن اليابان رسمياً كانت سياسياً بعيدة كل البعد عن البلدان الشيوعية والاشتراكية، وعلى مر السنين، لم تلتفت الحكومة وشريحة واسعة من الرأي العام بتغذية التعاطف اليساري، وليس حتى أثناء فترات التضليل الناجمة عن القصور السياسي للأحزاب الليبرالية -الديمقراطية أو حتى في تلك الأوقات المتخمة بالإرهاب العالمي أو الداخلي. والجدير بالذكر تعليقاً على الحالة الأخيرة، فإنه وبصرف النظر عن الأسلوب اللا عنفي التي كانت تنتهجه الشرطة، فإن هدف الدولة في المقام الأول هو صد الإرهاب اليساري. وذلك نظراً للهوية الوطنية الجامعة التي لا مراء فيها.[xxxi]

أما العامل الرابع والأخير، هو “التمكين الأمريكي”[xxxii]: أي التحالف الثقافي-الاقتصادي الواسع مع الولايات المتحدة، والذي ما يزال مستمراً حتى وقتنا الحاضر. بطبيعة الحال، أثرت الولايات المتحدة جراء هذا التمكين لعقود طويلة على اليابان على تنميتها الاقتصادية وعلى قطاعات مثل الثقافة الشعبية  Pop culture والثقافة الجماهيرية Mass culture، ووسائل الإعلام الجماهيرية، والترفيه، والأزياء، ومختلف السلع الأساسية.

في سبعينات القرن الماضي، تأثر المناخ الثقافي والسياسي بالاتجاهات الفكرية السالفة الذكر. وتعمقت المشاعر السلمية عبر الأجيال. واكتسبت اليابان المزيد من الثقة المتوازنة بالنفس فيما يتعلق بمكانتها على رقعة الشطرنج الدولية، أو – أكثر تحديداً -فيما يتعلق بعلاقتها مع الولايات المتحدة. وصلت هذه العلاقة إلى نقطة دراماتيكية خلال الأزمات السياسية الرئيسية في شرق آسيا: كانسحاب الجيش الأمريكي من فيتنام (1975). وصعود الخمير الحمر بقيادة بول بوت في كمبوديا (1975-1976)؛ والمرحلة الأخيرة من حكم ماو (الذي وافته المنية عام 1976). وهذا يعني أن اليابان كانت في منطقة جيوسياسية وفترة تاريخية كان من الضروري فيها إيلاء اهتمام أكبر بالنمو الجامح للشيوعية والقوى السياسية والعسكرية الاشتراكية، في الفترة التي استقر فيها السلام داخلياً -بوصفه قيمة وطنية أساسية-مدعوماً بواسطة الحماية العسكرية الأمريكية العتيدة. كان واضحاً أن العالم قد انقسم إلى كتلتين: كتلة شمولية وأخرى ديمقراطية، كما هو الحال خلال الحرب الباردة والصراعات المحلية بعد عام 1945، من صراعات كوريا وما تلاها من صراعات. لذلك، إنه لمن الصعب ألا نرى في قصص الخيال العلمي اليابانية الكرتونية – أو بعضها -أي تمظهر لمخاوف تلك السنين التي ألفها اليابانيون، والمرتبطة بتلك الدول والسنين العجاف، وأحلام اليابانيين ومخاوفهم.

* ماركو بيلاتيري

عالم اجتماع، مهتم بنقد وتحليل أفلام الكرتون اليابانية، من آخر كتبه: التنين والانبهار: نماذج واستراتيجيات وهويات الخيال الياباني (is Il Drago e la Saetta. Modelli, strategie e identità dell’immaginario giapponese) .

Nippon ex Machina: Japanese Postwar Identity in Robot Anime and the Case of UFO Robo Grendizer” by Marco Pellitteri from Frenchy Lunning (ed.), Mechademia 4: War/Time (University of Minnesota Press, 2009)

 

appears here in Arabic translation by permission of the publisher. Copyright 2009 by the Regents of the University of Minnesota. All rights reserved.

 

Permission is nonexclusive and any sales of the translation of this article are expressly prohibited.

 

هذا المقال مترجم بترخيص من الناشر، ٢٠٠٩, جامعة مينيسوتا.

الترخيص غير حصري، ويحضر بيع هذه الترجمة.

 

 

[i] الأنمي anime: هي أعمال الرسوم المتحركة اليابانية، يستخدم هذا المصطلح للتمييز عن “الكرتون” الذي غالباً ما يطلق على أعمال الرسوم المتحركة الغربية أو الأمريكية تحديداً. بسبب الاختلاف الجوهري بين المدرستين. (المترجم).

[ii] يعرف عربياً باسم: مغامرات الفضاء: يوفو – غرانديزر (المترجم)

[iii] UFO Robo Grendizer, from a manga by Nagai Gō (other versions of the manga are by Ōta Gosaku, Nagai’s assistant), 74 episodes, Tōei Animation, 1975–77; better known in Italy as Atlas UFO Robot (where Grendizer is “Goldrake”); in France, Canada, and in other French/Arab-speaking countries, as Goldorak; in the United States and other countries, as Grandizer. Main teleplays authors: Uehara Sozō, Fujikawa Keisuke. Animation: Ketsuta Toshio. Character design: Komatsubara Kazuo, Araki Shingō (from episode 49 on). Music: Kikuchi Shunsuke. Main directors: Katsumata Tomoharu, Ochiai Masamune.

[iv]  لتحليل أطول لكامل السلسلة ولكل تلك العناصر التي لم أوردها في هذا المقال، يرجى مطالعة التالي: Marco Pellitteri, Il Drago e la Saetta: Modelli, strategie e identità dell’immaginario giapponese (The dragon and the dazzle: Models, strategies, and identities of Japanese imagination) (Latina: Tunué, 2008), 251–83, and Alessandro Montosi, Ufo Robot Goldrake: Storia di un eroe nell’Italia degli anni Ottanta (UFO Robot Goldrake: Story of a eighties hero in Italy) (Roma: Coniglio, 2007).

[v] ترجم هذين العملين إلى العربية في الثمانينات (المترجم)

[vi] Mazinger Z, various directors (1972), 92 episodes; Great Mazinger, various directors (1974), 56 episodes; both produced by Tōei Animation and taken from the related Nagai Gō’s manga.

[vii] الاسم في النسخة العربية: القائد فيغا (المترجم)

[viii] الاسم في النسخة العربية: آمون (المترجم)

[ix] اختصار لكلمة terrestrial flying object، وتعني الطبق الأرضي الطائر.

[x] الأسماء العربية الثلاثة حسب تسمية النسخة العربية للمسلسل (المترجم).

[xi] هي مخلوقات من الفلكلور الياباني، وتعني شيطان أو روح شريرة، أو غول. وتوجد العديد من الأعمال في الفن، المسرح، والأدب الياباني عن هذه الشخصية الأسطورية (المترجم)

[xii] The War of the Worlds (USA, 1953, dir. Byron Haskin), from the 1898 novel by H. G. Wells.

[xiii] Think of movies such as The Thing from Another World (USA, 1951, dir. Christian Nyby) and Invasion of the Body Snatchers(USA, 1956, dir. Don Siegel).

[xiv] نسبة إلى المانوية، أو المنانية Manichaean, وهي تنسب إلى صاحبها ماني بن فتك بن أبي برزام الثنوي، المولود سنة 216م في بابل. وهي من عقائد “الثنوية” Dualism القائلين بوجود إلهين أو أصلين في الوجود متضادين، وهم الخير والشر أو النور والظلام. للاستزادة، انظر إلى المانوية في ويكيبيديا, والثنوية في الموسوعة العربية. (المترجم)

[xv] التشيؤ: reification تعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقات آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل (المترجم)

[xvi] هذا مرتبط أكثر بالمؤلفين أنفسهم أكثر من ارتباطه بالمشاهدين الصغار، الذين من الصعب أن يتوقع منهم أن يفهموا تلك الرمزيات الدقيقة المخبئة في تلك الرمزيات، لكن قد ينتبهون إليها لاحقاً بعد سنوات.

[xvii] Giovanni Villella (under pseud. Alcor), “Goldrake: Locations,” in Il Fantastico Mondo di Go Nagai (The fantastic world of Go Nagai) Web site: http://www.nagaifans.it/goldrake/locations/locations.htm (accessed February 2007).

[xviii] فترة ياماتو: هي الفترة التاريخية التي صاحبها قيام أول دولة مركزية في اليابان، في الموضع الذي يعرف اليوم بـ”سهل نارا“، ويعتقد أن السلالة الإمبراطورية تنتمي لهذه الفترة. (المترجم)

[xix] On Japan’s history during colonialism/imperialism, see John W. Dower, War without Mercy: Race and Power in the Pacific War (New York: Pantheon Books, 1986), and Michael Weiner, Race and Migration in Imperial Japan (London: Routledge, 1994).

[xx] هذا الشعار عبارة عن صيغة حديثة معدلة من شعار أقدم، “واكون كانساي wakon kansai”، ويعني ((روحٌ يابانية، تقنيةٌ صينية)). اشتهر هذا الشعار في منتصف القرن التاسع عشر، في إشارة إلى الدَين الياباني للثقافة الصينية. أما الشعار المكتوب في هذا المقال “واكون واساي wakon yōsai” فهو يعني ((روحٌ يابانية، تقنيةٌ غربية)). للمزيد أنظر: Michael Carr, “Yamato-Damashii ‘Japanese Spirit’ Definitions,” International Journal of Lexicography 7, no. 4 (1994), 279–306.

[xxi] William Gibson, “Modern Boys and Mobile Girls,” The Observer Web site (April 1, 2001),http://observer.guardian.co.uk/life/story/0,6903,46639100.html#article_continue (accessed May 2007).

[xxii] جزيرة خيالية أحدثت لأغراض القصة، تقع في البحر المتوسط وقامت فيها امبراطورية موكناي. (المترجم)

[xxiii] موكناي: موقع أثري يقع في اليونان ويبعد حوالي 90 كلم جنوب غرب العاصمة أثينا. يعود بناء هذه المدينة إلى الألف الثاني قبل الميلاد حوالي سنة 1600-12000 ق م والقلعة الموجودة في المدينة تعود لحوالي سنة 1350 ق م. (المترجم)

[xxiv] المستشرق الذاتي: أو المستشرق الاسقاطي، هو شخص من أهل الشرق ويكتب عن الشرق من وجهة نظر الغربيين. (المترجم)

[xxv] Cf. at least Tessa Morris-Suzuki, Re-Inventing Japan: Time, Space, Nation (New York: M. E. Sharpe, 1998).

[xxvi] Umesao Tadao, “Bunmei no seitai shikan yosetsu” (Civilization in ecologic history perspective), Chūō Kōron, February 1957; cited in Iwabuchi Koichi, Recentering Globalization: Popular Culture and Asian Transnationalism (Durham, N.C.: Duke University Press, 2002), 63.

[xxvii] Edwin O. Reischauer, Japan, Past and Present, 2nd ed. (Tokyo: Charles E. Tuttle Company, 1952), 250–51.

[xxviii] Ibid., 251.

[xxix] Ibid., 251–52.

[xxx] Ibid., 253–54.

[xxxi] Peter J. Katzenstein, Cultural Norms and National Security: Police and Military in Postwar Japan (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1996), 96.

[xxxii] Reischauer, Japan, Past and Present, 256–57.

ضع تعليقك