محاولات اختيار الطريقة المثلى للحياة قد تنتهي إلى الفشل

محاولات اختيار الطريقة المثلى للحياة قد تنتهي إلى الفشل

بعض الآباء يلحّون على أطفالهم لأن يكونوا الأفضل في كل شيء يفعلونه، فهم يدفعونه لأن يكونوا أفضل الرياضيين، وأفضل العلماء، وأفضل الموسيقيين، إلى آخره. وآخرون يلحون على أطفالهم لأن يمارسوا ما يجيدونه أكثر، سواء أكان ذلك في المجال الرياضي أم في المجال الأكاديمي أم الموسيقي. بعض الآباء يدفعون أطفالهم لأن يبذلوا ما بوسعهم. أما آخرون فيحاولون قدر الإمكان ألا يدفعوا أطفالهم ليكونوا الأفضل، أو حتى لمحاولة أن يكونوا الأفضل، لأنهم يخشون من الأضرار النفسية التي قد تسببها مثل هذه الرسائل. ولكن أغلب الآباء يحبون أطفالهم، ومهما كانت طريقة تنشئتهم لهم فهم يبذلون ما بوسعهم من الجهد نيابة عنهم. ففي النهاية، أغلب الآباء يرغبون وبكل صدق فيما هو أفضل لأبنائهم – كل ما في الأمر هو أن لهم تصورات مختلفة عما يتطلبه ذلك.

خلال سعيهم نحو ما هو أفضل لأطفالهم، ينجرف أغلب الآباء ضمنيًا نحو تلك النظرة إلى العقلانية الفردية Individual  Rationality التي لا تزال مهيمنة، على الأقل في الغرب، منذ عصر الإغريق. في هذه النظرة، الأمر الذي يُعتبر عقلانيًا هو التصرف على نحو يعظّم من الجودة العامة لحياة الفرد خلال سنيّ حياته – أي أن الفرد العقلاني يختار الخيار الذي يجعل حياته بشكلها الكلي تسير على ما يرام ما أمكنه ذلك. يشير الشعار الدعائي للجيش الأمريكي “كن ما تستطيع أن تكون Be All You Can Be” إلى هذه الصورة التي يكون بها الفرد عقلانيًا.

هنالك افتراضان أساسيان في التصور المعياري للعقلانية: الأول هو أن هنالك طريقة مثلى لأي حياة في هذا الوجود. أما الافتراض الثاني فهو افتراض أكثر تقنية – سأسميه مسلّمة التفضيل المتعدّي The Axiom of Transitivity for Better than – والذي يقول بأنه لكل ثلاث خيارات، إذا كان الأول أفضل من الثاني، والثاني أفضل من الثالث، فإن الأول سيكون حتمًا أفضل من الثالث.

تقوم مسلّمة التفضيل المتعدي بوضع منهج لاتخاذ القرارات لتحديد الخيار الأفضل من بين عدد منتهٍ من الخيارات. قارن بين كل خيارين في كل مرة، إذا كان الخيار الأول أفضل، استبعد الثاني، ثم قارن بين الثالث والأول، إذا كان الثالث أفضل استبعد الأول. استمر على هذا المنوال في اختيار الأفضل من بين كل زوج من الخيارات. بهذه القاعدة، إذا كانت مسلّمة التفضيل المتعدي صحيحة، فسنستطيع تعيين الخيار الأفضل في أي مجموعة عدد خياراتها (ن) بعد المرور بـ (ن – 1) من المقارنات بين الأزواج.

كثير من الناس قد تحدوا الافتراض الأول بواحدة من أربع طرق. بعضهم يشير إلى أن بعض الخيارات قد تتساوى في جودتها، ولذلك لا يوجد خيار واحد أمثل. آخرون يقترحون أن بعض البدائل قد لا تكون قابلة للمقارنة إلا بالكاد، أو أنها على قدم المساواة. وفقًا لهذه النظرة، قد يكون هنالك خياران على نفس الطاولة، ولنقل آينشتاين وموزارت، أو وظيفة قانونية ووظيفة أكاديمية، دون أن يكون هنالك خيار واحد أفضل من الآخر، أو قد يتساوى كلاهما في الجودة. أم وهنالك آخرون يقولون بأنه في بعض الحالات النادرة لا يمكن المقارنة بين الخيارين أبدًا. وأخيرًا، هنالك من يقول بأنه قد لا يوجد احتمال أمثل من بين عدد لا محدود من الاحتمالات، مثلما أنه لا يوجد عدد أكبر في المتتابعة غير المنتهية للأعداد 1، 2، 3، 4، …

أصحاب التصور المعياري للعقلانية يستطيعون وبسهولة تعديل نظرتهم لاستيعاب مثل هذه المخاوف. بمقدورهم أن يقولوا أنه إن تساوَ خياران في الجودة، أو إن لم يكونا قابلين للمقارنة، أو أنهما بالكاد يمكن مقارنتهما، فعندها ليس هنالك سبب مقنع لأنْ يتم اختيار أحدهم دون الآخر، ولذلك نستطيع أن نختار أيًا منهما، وبشكل عقلاني. كما يمكنهم أن يزيدوا على ذلك أننا كائنات محدودة عادة ما يتوجب عليها الاختيار من بين خيارات محدودة، وفي كل الأحوال يستطيع الفرد أن يختار أي خيار طالما أن لا يوجد ما هو أفضل منه. لذلك، ووفقًا لهذا الرأي المعدّل، حتى لو لم يكن هنالك خيار واحد أمثل، بإمكان العقلانية أن توجهنا نحو عدم اختيار ما هو أسوء بدلًا مما هو أفضل منه في حال وجوده.

أما الافتراض الأساسي الثاني فلم يتم اختبار صحته في أغلب التاريخ البشري. أغلب الفلاسفة والاقتصاديين وغيرهم قد افترضوا بأن مسلّمة التفضيل المتعدي صحيحة حتمًا، وذلك بفضل معنى كلمة “التفضيل” باعتبارها مسألة منطقية. لقد افترض أغلب الناس بأن كل علاقات المقارنة (أي ما يأتي على وزن أفعل) هي متعدية بالضرورة. وأغلبها كذلك. فمثلًا، إذا كان أحمد أطول (أو أسرع، أو أثقل) من إلسا، وإذا كان إلسا أطول (أو أسرع، أو أثقل) من تشوي بينغ، فأحمد أطول من تشوي بينغ حتمًا (أو أسرع، أو أثقل).

إلا أن الافتراض الأساسي الثاني عن العقلانية قد يكون خطأً من الأعماق.

يعتمد طول أحمد – بمعناه المطلق – على حقائق داخلية عن أحمد، وهذه الحقائق الداخلية لا تتغير وفقًا لتغير للشخص الذي نقارنه بأحمد في الطول. أحمد طويل بالمقارنة مع الفئران، وقصير بالمقارنة مع الزرافات، ولكن العوامل التي نأخذها بعين الاعتبار في تقدير طول أحد ما، والطريقة التي نستعين فيها بتلك العوامل في تحديد ما إذا كان كائن ما أطول من غيره أو لا، كلاهما لا يتغيران. ولذلك تكون علاقة “أطول” علاقة متعدية. بما أن العوامل ذات الصلة بمقارنة أحمد وإلسا في الطول هي نفسها العوامل ذات الصلة بمقارنة إلسا وتشوي بينغ في الطول، وبمقارنة أحمد وتشوي بينغ في الطول، فذلك يعني أنه إذا كان أحمد أطول من إلسا، وإلسا أطول من تشوي بينغ، فمن حيث تلك العوامل غير المتغيرة يكون أحمد أطول من تشوي بينغ.

ولكن علاقة “أفضل” مختلفة. عادة ما تختلف العوامل ذات الصلة بالمقارنة بين نتيجة ما وبين أخرى، وفقًا لاختلاف البدائل التي يتم مقارنتها. لذلك، من الممكن أن تكون النتيجة الأولى أفضل من الثانية من حيث جميع العوامل ذات الصلة بتلك المقارنة، وأن تكون النتيجة الثانية أفضل من الثالثة من حيث جميع العوامل ذات الصلة بتلك المقارنة، إلا أن النتيجة الأولى قد لا تكون أفضل من الثالثة، لأن العوامل المتعلقة بتحديد أيّ هاتين النتيجتين أفضل قد تختلف عن تلك العوامل المتعلقة بالمقارنة بين المجموعتين الأخريتين من البدائل.

إليك مثالًا واقعيًا: في الولايات المتحدة الأمريكية، كثير من الناس يفضّلون سياسة تشتمل على إجراءات إيجابية من النوع التالي: هم يعتقدون أنه يجب إعطاء نوع من التفضيل للأمريكيين الأفارقة على البِيض في بعض المناصب. تبرير هذه النظرة يكمن في العلاقة التاريخية المميزة بين البيض والأمريكيين الأفارقة في الولايات المتحدة، بما يشمل تاريخ العبودية والإعدام بلا محاكمة وقوانين جيم كرو[1]، وهكذا. لاحظ أنه بناءً على هذا الرأي، لا يوجد هنالك أي سبب لإعطاء الأفضلية للأمريكان المكسيكيين على البيض، ولا لإعطاء الأفضلية للأمريكان الأفارقة على الأمريكان المكسيكيين، ببساطة لأن الأمريكان المكسيكيين لم يتم استعبادهم من قبل البيض، كما أن الأمريكان الأفارقة لم يُستعبدوا من قبل الأمريكان المكسيكيين.

وفقًا لهذا الرأي، يمكن أن يكون هنالك ثلاثة أشخاص: السيد الأبيض، السيد الأمريكي المكسيكي، والسيد الأمريكي الأفريقي، عند أخذ جميع الجوانب بعين الاعتبار – أي عند الأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل ذات الصلة بكل مقارنة -، يمكننا أن نحكم بأن توظيف السيد الأبيض أفضل من توظيف السيد الأمريكي المكسيكي، وأن توظيف السيد الأمريكي المكسيكي أفضل من توظيف السيد الأمريكي الأفريقي، ومع ذلك فإن توظيف السيد الأمريكي الأفريقي أفضل من توظيف السيد الأبيض. هنا نجد مخالفة لمسلمّة التفضيل المتعدي، وسبب هذه المخالفة، كما هو مذكور في الأعلى، هو أن العوامل ذات الصلة بالرغبة في توظيف السيد الأبيض هي، على الأقل في جزء منها، تختلف بالاعتماد على ما إذا كان الخيار البديل هو توظيف السيد الأمريكي المكسيكي أو السيد الأمريكي الأفريقي.

عندما سئلت منظمة الصحة العالمية WHO عن كيفية تجنبهم لهذا النوع من المعضلات، أجابت باختصار: “بالمراوغة!”

إليك هذا المثال الآخر. مثلها مثل الكثير من منظمات الصحة الوطنية والعالمية، عادة ما تتبنى منظم الصحة العالمية طريقة ذات تكلفة مجدية Cost-effective عند الاختيار من بين السياسات الصحية. ينطوي ذلك في جوهره على محاولة الحصول على أكبر قدر من المردود في إنفاق مواردهم النادرة، وهذا يتطلب القيام ببعض المقايضات بين الجودة والكمية. فمثلًا، لو أن باستطاعتهم علاج مرض خطير جدًا يصيب عددًا صغيرًا نسبيًا من الناس، أو مرض أقل خطورة بقليل ويؤثر على ضعف العدد من الناس، فإنهم سيعالجون المرض الثاني. ولكن هذا النوع من المقايضة بين الجودة والكمية يبدو صالحًا فقط في بعض الحالات. فإذا كانت الفجوة في خطورة المرض كبيرة بما يكفي، فإن منظمة الصحة العالمية لن تهتم بالمرض الأقل خطورة مهما كان عدد الأشخاص المصابين به. لذلك فإن منظمة الصحة العالمية لا تدخل في مجال الوقاية من الحكّات أو أوجاع الرأس قصيرة المدى والبسيطة، مهما كان عدد الأشخاص الذين قد يصابون بهذه الأسقام.

ولكن هذا المزيج من وجهات النظر المعقولة لا يتوافق مع مسلّمة التفضيل المتعدي، لأنه من الممكن أن يكون هنالك مجموعة من الأمراض بحيث يكون الأول خطيرًا جدًا ولكنه يصيب ألوفًا قليلة من الناس، ويكون الثاني أقل خطورة بقليل ولكنه يصيب عدد أكبر بكثير، ويكون الثالث أقل خطورة بقليل من الثاني ولكنه يصيب عددًا أكبر من الأشخاص، وهكذا، إلى أن نصل إلى الأخير حيث لا يوجد سوى الحكّات المتوسطة وسريعة الزوال ولكنها تصيب أغلب البشر. باستخدام طريقة التفكير ذات التكلفة المجدية التي تبدو صالحة في بعض المقارنات، قد يُحكم بأن علاج المرض الثاني أفضل من علاج المرض الأول، وأن علاج الثالث أفضل من علاج الثاني، وعلاج الرابع أفضل من علاج الثالث، وهكذا. جنبًا إلى جنب مع مسلّمة التفضيل المتعدي، هذه الأحكام الزوجية تقتضي بأن علاج المرض الأخير أفضل من علاج المرض الأول. ولكن لا أحد تقريبًا يعتقد بذلك. إنه من الواضح أن علاج المرض الأول أفضل من علاج الأخير. هنا، تختلف العوامل التي تبدو متعلقة بالمقارنة ما بين الأمراض المتجاورة في مجموعة الأمراض – التي، أي المقارنة، تبرّر نوع المقايضات بين الجودة والكمية التي تحدثت عنها – عن تلك العوامل التي تبدو متعلقة بالمقارنة بين الأمراض التي في قطبي المجموعة، حيث لم تعد المقايضات بين الجودة والكمية تبدو مسموحة بها.

لاحظ أنه في هذه الحالة لا يوجد خيار أمثل لتتخذه منظمة الصحة العالمية. بل أسوء من ذلك: كل خيار تتخذه المنظمة سيكون هنالك خيار آخر يبدو أفضل منه بشكل واضح. عندما سئلتْ منظمة الصحة العالمية عن كيفية تجنبها لهذه المعضلة، أجاب أحد أعضائها المكلفين باتخاذ مثل هذه القرارات باختصار: “بالمراوغة!”. لقد كان على علم تمامًا بأن منظمة الصحة العالمية تتبع أنماطًا معينة من التفكير في قرارات معينة، إلا أن هذه الطريقة في التفكير أدّت إلى نتيجة حتمية لا يمكن لهم – ولا ينبغي لهم – أن يقبلوها.

من المدهش كيف أن الناس عادة ما يشترون شيئًا ما، ثم يندمون فورًا على شراء ذلك الشيء بدلًا من الشيء الآخر الذي كان من الممكن أن يشتروه. ردة الفعل الشائعة هذه يُعتقد أنها تعكس نوعًا من القصور النفسي (السيكولوجي) عند الشخص، ولا شك أنها كذلك في أغلب الحالات. ولكن هنالك تفسير آخر محتمل لانتشار ندم المشتري في كل مكان. قد يكون الأمر هو أننا عادة ما نواجه سلسلة من الخيارات التي تسقط أمامها مسلّمة التفضيل المتعدي. في تلك الحالات، هنالك سلسلة من الخيارات يكون فيها الأول أفضل من الثاني، والثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع، وهكذا، ولكن الخيار الأخير يكون أفضل من الأول.

في تلك الحالة، سيكون لدينا مثال لما يسميه الاقتصاديون “حلَقة Cycle”، وسيكون للشخص العقلاني السبب الكافي لتفضيل الخيار الأول على الثاني (لأنه،  في نهاية الأمر، أفضل)، وسبب كافٍ لتفضيل الثاني على الثالث، وهكذا، ولكن الشخص العقلاني لديه سبب كافٍ أيضًا لتفضيل الخيار الأول على الخيار الأخير. في تلك الحالة، ليس هنالك خيار أمثل. والأسوء من ذلك أنه من المضمون أن أي خيار يتخذه المرء سيكون هنالك ما هو أفضل منه. عندها سيكون من الطبيعي أن يعاني الناس من ندم المشتري، إذ أنهم سيعودون إلى منازلهم وسيقارنون ما اشتروه مع ما كان من الممكن أن يشتروه، فيقرّرون وبشكل صحيح بأنهم قد اختاروا ما هو أسوء. المشكلة هي أنهم إن كانوا يواجهون حلَقة من البدائل غير المتعدية، فإن ندم المشتري هذا سيكون حتميًا.

تعمل خطة “الطُعْم والتبديل Bait-and-switch” الكلاسيكية كالتالي: تقوم الشركة بالإعلان عن منتج ما بسعر منخفض جدًا، يذهب الزبون لشراء هذا المنتج الذي لم يعد متوفرًا في المتجر (وربما لم يتوفر أساسًا)، فيُعرض على الزبون شراء منتج آخر أكثر فخامة وأعلى سعرًا . بما أن الزبون قد ذهب لشراء منتج من ذاك النوع، فإنه قد يكره فكرة أن يرجع إلى منزله خالي اليدين، وقد ينتهي به الأمر إلى العودة إلى المنزل بعد شراء منتج أفخم، إلا أنه أعلى ثمنًا من المنتج الذي كان ينوي شراءه في البداية. بعد هذا الفعل، قد يشعر الزبون، وأغلب الناس سيتفقون معه، بأنه قد تم خداعه من قبل تاجر لا ضمير له.

يمكن للأشكال المختلفة من “الطُعم والتبديل” أن تكون فعّالة بنفس المقدار تقريبًا. يقوم متجر ما بالإعلان عن منتج –لنقلْ سيارة – بسعر جيد جدًا. عندما يصل الزبون، قد تكون السيارة متوفرة بالسعر المعلن عنه نفسه، إلا أن البائع يشير إلى أنه هذه السيارة أدنى في كثير من جوانبها من سيارة أخرى لها مميزات إضافية، والتي لا يزيد سعرها كثيرًا عن الأولى. قد يتفق الزبون في أن المميزات الإضافية تستحق الثمن الإضافي، فيقرر شراء السيارة الأفخم. عند ذلك، قد تُعرض على الزبون سيارة ثالثة لها مميزات أكثر مقابل سعر لا يزيد كثيرًا عن السيارة الثانية، وقد يتفق الزبون مرة أخرى في أن المميزات الإضافية تستحق الثمن الإضافي فيقرر شراء تلك السيارة الأفخم من الثانية. في نهاية المطاف، قد يعود الزبون إلى المنزل وهو يقود سيارة أفخم مما كان يحتاجه أو يرغب فيه، وقد يشعر بالغباء لأنه وقع ضحية إغراءات البائع المختلفة. بعد أن يصل إلى المنزل بسيارته الجديدة، قد يقرر الزبون بأنه سيكون أفضل حالًا مع الموديل الأرخص ذي المميزات الأقل الذي كان ينوي شراءه في البداية. وقد يكون على حق في ذلك.

إن كنتُ محقًا، فإن محاولات المرء لتعيين الحياة الأمثل لأطفاله قد تنتهي إلى الفشل.

هذه الظاهرة شائعة جدًا. عندما تحدث، يشعر الزبون عادةً بأنه كان غبيًا و/أو أنه تم خداعه. قد يبرر تصرفه هذا بالـ[2]Akrasia – ضعف الإرادة – وأنه لم يستطع إنقاذ نفسه حينما عرضت عليه كل تلك المميزات الإضافية. قد يأتي الاقتصاديون بتقييم أكثر قسوة من ذلك. طبقًا للافتراض الأساسي الثاني الذي يؤسس للتصور المعياري للعقلانية، مسلّمة التفضيل المتعدي، فإنه من الواضح أن هذا الشخص غير عقلاني، إذ أنه قد فضّل السيارة الثانية على الأولى، والثالثة على الثانية، على الرغم من أنه – وفقًا لحُكمه الأخير – يفضّل السيارة الأولى على الثالثة كذلك. وفي الواقع يتفق الجميع على أن الباعة الذين ينخرطون في مثل هذه النشاطات هم أشخاص بلا ضمير باستغلالهم لمواطن الضعف عند الإنسان و/أو لاعقلانيته.

ومع ذلك، كما رأينا، هنالك احتمال آخر يلوح في الأفق: قد لا تكون مسلّمة التفضيل المتعدي صحيحة. ربما لا يعاني مشتري السيارة من ضعف الإرادة أو اللاعقلانية، وقد لا يكون البائع بلا ضمير. قد يكون الأمر أن السيارة الثانية كانت بالفعل أفضل من الأولى من حيث جميع العوامل المتعلقة بتلك المقارنة، وأن السيارة الثالثة كانت بالفعل أفضل من الثانية من حيث جميع العوامل المتعلقة بتلك المقارنة، ومع ذلك فإن السيارة الأولى أفضل من الثالثة من حيث جميع العوامل المتعلقة بتلك المقارنة. في هذه الحالة، بالكاد يمكن إلقاء اللوم على البائع لأنه أشار أمام الزبون إلى وجود سيارة ثانية متوفرة للشراء وتمثل خيارًا أفضل من الأولى، وإلى وجود سيارة ثالثة أفضل كذلك من السيارة الثانية. أما الزبون فقد يستجيب ببساطة إلى أسباب وجيهة أثناء قراره الصائب بأنه سيكون أفضل حالًا بشراء السيارة الثانية بدلًا من الأولى، وبشراء السيارة الثالثة بدلًا من الثانية. ولكن، بالطبع، إن لم تكن مسلّمة التفضيل المتعدي صحيحة، فهذا قد يفسّر لماذا قد ينتهي الأمر بالزبون إلى نتيجة أسوء من أخرى متاحة لربما انتهى إليها بدلًا من ذلك، وهي شراء السيارة الأولى.

لنعد إلى الأبوين الذين يريدون الأفضل لطفلهم. ربما تفكّر الأم، في مرحلة ما، بأن تدفع بطفلها لأن يكون معلمًا في المدرسة الابتدائية، وهي مهنة شريفة وفيها الكثير من المميزات. ولكن إن كان الطفل موهوبًا، فقد تشعر بأن حياة بروفيسور الجامعة ستكون أفضل من ذلك، إذ أنها ستتضمن التدريس أيضًا ولكنها قد تجلب معها المزيد من التحفيز الفكري وتوفر دخلًا أكثر واحترامًا أكثر لصاحبها. ومع ذلك، وبالمقارنة مع حياة البروفيسور، قد تقرر الأم أن حياة كاتب العدل ستكون أفضل أيضًا. فهي أيضًا تتضمن التحفيز الفكري، وربما دخلًا أكثر، وسنين دراسة أقل، وفرص عمل أكثر بكثير. إلا أنه عند المقارنة بحياة كاتب العدل، فإن حياة العمل في المصارف الاستثمارية قد تكون أفضل، بما فيها من فوائد اجتماعية واقتصادية لا يحلم بها إلا القلة من كتّاب العدل. على الرغم من كل ذلك، قد تبدو حياة معلّم الابتدائية أفضل في نهاية المطاف من المصرف الاستثماري، لما فيها من قلق أقل، ووقت أكثر يقضيه المرء مع عائلته، وإمكانية العيش في مكان آخر غير المراكز المالية الأساسية، وغير ذلك.

عند مواجهة هذه الحلقة من الخيارات، يحثّنا الأغلب من الناس على التفكير مليًّا، وعلى أن نقرر أي حياة ستكون الأمثل. من المفترض أن تكون هذه الحياة هي تلك التي تتضمن المزيج النهائي الأمثل من الفوائد والأعباء. ولكن، إن كنتُ على حق، فإن محاولات المرء لتحديد الحياة الأمثل لطفله قد تنتهي إلى الفشل. لسوء الحظ، بوجود هذا التعقيد في العالم المعياري الذي نعيش فيه، من الممكن أن يكون الأمر هو أنه عند وجود مجموعة من الحيوات[3] المحتملة، فإن الخيار الأول أفضل من الثاني، والذي هو أفضل من الثالث، والذي هو أفضل من الرابع، وهكذا، ومع ذلك فقد لا يكون الخيار الأول أفضل من الأخير.

إنها احتمالية محيرة ومزعجة، وقد تترك الأبوين تائهين فيما يقترحونه لأطفالهم، لأن أي خيار يقترحونه سيكون هنالك ما هو أفضل منه. إن تعلّم التعايش مع تلك الحقيقة، إن كانت حقيقة، يتطلب إعادة تفكير شاملة بما يعنيه أن يكون المرء عقلانيًا، وبما يعنيه أن يتخذ المرء القرارات الجيدة.


المصدر: هنا

ترجمة: علي الحاجي @AliHajji93


الهوامش:

[1]  مصطلح يُطلق على القوانين العنصرية الموجهة ضد السود.

[2]  كلمة إغريقية يوردها الكاتب كما هي ثم يترجم معناها إلى الإنجليزية Weakness of the  will.

[3]  حيوات هو الجمع الصحيح لكلمة حياة.

ضع تعليقك